«شارع باتا».. المكان شاهداً وسارداً ومؤرخاً في الرواية

ثقافة 2021/02/10
...

 فاضل ثامر
 
رواية «شارع باتا» لزيد الشهيد 2017، تستدرجك منذ صفحاتها الأولى للوقوف أمام دلالة المكان المتمثل بشارع باتا، أحد الشوارع الأساسية في مدينة السماوة الجنوبية، المتاخمة للصحراء. إذْ يتحول المكان، لعنصر فاعل ومؤثر ومتحكم في السرد، بل تشعر بأنه الشاهد على حياة الناس والمدينة وواحد من أبنائها، والمؤرخ لتاريخها الذي يسرد ما يرى بحيادية وموضوعية. 
الزمان في الرواية عراقي بامتياز، فالأحداث كلها تقع في الزمن العراقي، حيث يستهل المؤلف سرده بالإشارة لـ « ضحى يوم منتصف آذار،2015  أي يوم تحرير تكريت من الدواعش” عندما يخرق صمت المدينة الصغيرة الهادئة صوت هدير طائرة حربية، فتحرك ماء البحيرة الساكن. 
يستهل سرده ببناء مشهد روائي لظهور الطائرات الحربية في سماء المدينة، عبر سرد يزاوج بين السرد كلي العلم، وسرد المؤلف الضمني. 
لكن السرد الروائي سرعان ما ينتقل لضمير المتكلم الاوتوبيوغرافي (أنا) وهو سرد البطل المركزي للرواية، الذي سنعرف لاحقاً إنه مترجم اسمه (حمزة)، والذي كان منهمكاً بترجمة الرواية الدانماركية التي ارسلها له صديقه هاشم المسافر من الدانمارك. 
ومن خلال سرد البطل المونولوغي، نتعرف الى جوانب مهمة من شخصيته وعلاقاته الاجتماعية، وينبهنا لاهتمام زوجته، مدرسة اللغة العربية، والناشطة الاجتماعية، بقنوات الطبخ المنزلي. كما تأخذ الرواية منحى ميتاسردياً من خلال التأكيد على فعل الكتابة الأدبية، حيث يبث المؤلف مجموعة كبيرة من الآراء والاجتهادات ووجهات النظر حول وظيفة الترجمة والتزاماتها وشروطها، وهي إنثيالات تمر عبر شاشة وعي بطل الرواية الكاتب والمترجم حمزة. 
وهكذا يقدم لنا الراوي المركزي شخصيات الرواية والأمكنة المهمة في مقدمتها شارع باتا، الذي أصبح عنواناً للرواية. كما نتعرف الى شخصية صديقه هاشم المسافر النحات المغترب، الذي يفتح أفق المكان نحو الآخر، ونحو أزمنة أخرى خارج إطار الزمن العراقي. 
وتتعزز الصفة الميتاسردية أيضاً من خلال ادراج عدد من الوثائق والنصوص منها النصوص التي كتبها الشاب (جوادين) ابن صديقه فالح عواد ورسائل صديقه (هاشم المسافر) واشرطته الفيديوية. لكن تظل السماوة، بوصفها مكاناً وعتبة نصيّة، وشارع باتا تحديداً، بؤرة مولدة لسلسلة من الحبكات والحكايات عن تاريخ المدينة وشخصياتها، منها استذكار بطولة ابناء السماوة بتجريد قوة عسكرية عثمانية من الجندرمة وطردها خارج المدينة. 
كما يظل المكان هو البنية المكانية التفاعلية التي ركز الروائي على وصفها وتقديمها في تعالق بين التاريخي والحكائي، وكما قال الروائي في عنوان فرعي « شارع باتا». سيرة ذاتية” فقد رسم للشارع سيرة ذاتية بيوغرافية احياناً واوتوبيوغرافية تارة اخرى، عندما يتحول الشارع نفسه لسارد، وشاهد على الاحداث. 
وعلى الرغم من خلو الرواية من حدث مركزي متنام ومتصاعد خطياً تتمحور حوله جميع الحبكات والعقد والحكايات الفرعية، الا أن عملية ترجمة الرواية الدانماركية « خاتم الأمير العبد» التي بترجمها حمزة، تمثل فعلاً متصاعداً، وان النص الروائي المترجم نفسه يمثل نصاً موازياً أو غائباً يتحرك مع حركة الاحداث، البطيئة الايقاع نسبياً، من خلال الاشتراك في ثيمة مركزية واحدة هي «الهجرة» بحثاً عن الثروة والمجد، كما هو الحال بالنسبة لتوم اوكونر بطل الرواية الدانماركية، أو بحثاً عن اوكسجين الحرية والعدالة والكرامة، المفقود في عوالم أبطال رواية «شارع باتا «. 
ففي الروايتين ثمة تنازع بين قوتين: قوة جاذبة نحو المركز وقوة نابذة طاردة نحو الخارج، القوة الجاذبة تتمثل في رمزية شارع باتا، وهي هنا كناية عن السماوة، والى حد ما عن العراق. حيث يحشد الروائي كل الرموز والعلامات والموروثات المتعلقة بالشارع وبالمدينة وتاريخها وأناسها للتأكيد على ضرورة التمسك بالأرض والمكان ومقاومة اغراءات الهجرة خارجه. ويمثل حمزة، بطل الرواية المركزي وراويها الرئيسي موقفاً وطنياً رافضاً للهجرة.
وفي قوة الطرد نواجه غياب العدالة الاجتماعية واستشراء القمع وحوافز الهجرة الناجمة في تجارب ابناء المدينة الذين هاجروا، ربما أقدمهم (هاشم المسافر)، وآخرهم (جوادين) ابن صديقه (فالح عواد). 
وفي الجانب الآخر نجد عوامل قوى الجذب نحو المركز تتراكم من خلال تجميل تاريخ شارع باتا، ومدينة السماوة، وأُناسها، وبطولتها، وقد نجح المؤلف في خلق «هوية سردية» بتعبير بول ريكور، وهو هنا يذكرنا بزميله الروائي حامد فاضل، ابن السماوة الذي نجح في خلق مثل هذه الهوية السردية للمدينة. وقد دافع زيد الشهيد، في مرافعة حجاجية، عن رمزية شارع باتا، كونه يمتلك هوية خاصة وانه كون مصغر. 
ويعمد المؤلف في أكثر من موقع الى (انسنة) شارع باتا وانزاله منزلة العاقل من خلال عملية الشخصنة. وبهذه الطريقة «ينضّد» الحكايات والمشاهد والتواريخ التي تعزز رمزية الشارع بوصفه مكاناً، وتحوله عن طريق الأنسنة الى واحد من أبطال الرواية. ومما يدعم الثيمة المهمة التي طرحتها الرواية المترجمة من خلال مغامرات بطلها (توم اوكونور) في الهجرة والترحال وحول لا جدوى مغادرة الارض التي ترعرع فيها الانسان. 
حركة الواقع الخارجي غير مهمشة، مما يعزز «تاريخية» الحدث، لأن المؤلف قد «أطّر» الفعل الروائي تاريخياً وسردياً، ولم يتركه يعوم في سديم لا تاريخي، كما في بعض الروايات. 
لكن الرواية، أسرفت أحياناً في هذا التأطير وخاصة عن تاريخ السماوة في مختلف العهود السياسية، وراكمت أو «نضّدت» الحكايات والحبكات الثانوية التي يمكن الاستغناء عنها، كما في معظم حكايات الفصل الثالث. وهذا التأطير، الذي اعتمده الروائي، يتسع ليقدم صورة متحركة للواقع العراقي. ولذا فقد وجدنا تفاعلاً متبادلاً بين الإطار التاريخي والسياسي وحركة الاحداث الروائية والمصائر الفردية للشخصيات الروائية. كما نجحت الرواية في ادراج ثنائية القوة الجاذبة/ القوة الطاردة التي كانت تتحكم بأفعال الشخصيات وقراراتها المصيرية. 
وهذا التنازع يستمر حتى النهاية، عندما فوجئ حمزة بولديه وهما يزورانه ليعلنا عن عزمهما الهجرة، وكأن ذلك جاء رداً على إصرار الأب على البقاء ورفض اغراءات الهجرة، بما يوحي بأن حالة التنازع بين القوتين ما زالت مستمرة، وان حالة التوازن القلق لا يمكن أن تستمر طويلاً.ولا يمكن قراءة هذه الرواية بمعزل عن عتباتها النصية، ومنها عنوانها المركزي «شارع باتا» والعنوانات الفرعية والاقتباسات والاشارات المتنوعة منها المكان، الذاكرة، الماضي، الرحيل، التاريخ الاجتماعي والسياسي للسماوة والعراق، فضلاً عن موضوعات فكرية وثقافية منها عملية الترجمة الادبية، بالتزامن مع ترجمة الرواية الدانماركية، ومحور آخر عن الفلسفة اغنته النصوص المثيرة التي كتبها الشاب (جوادين) وحوارات (رشيد) الفلسفية. 
 تحتل العتبات الخاصة بالمكان أهمية مركزية. ومثلما أضاءت العتبات النصية الفعل الروائي موجهاته القرائية، فإن النص الروائي المترجم عن رواية دانماركية هو الآخر أضاء المسار الروائي وعمقه وأصبح موجهاً قرائياً مؤثراً من خلال خلق موازارة ومقارنة ومشابهة على مستوىة التناص والتوازي. 
رواية زيد الشهيد هذه واحدة من الروايات العراقية القليلة التي تحتفي بالمكان بوصفه بنية مولدّة وفاعلة، وتجعل منه نقطة شروع لبناء عالم روائي ضاج بالحياة والفعل والتحول، وهو ما يمنحها مكانة خاصة في السرد العراقي.