أين تسكن؟.. لعله السؤال الأول الذي يتبادر إلى أذهاننا حين نلتقي شخصاً ما بعد غياب وانقطاع.. أليس فيه ما يشي برغبة ضمنيَّة بالاطمئنان على وجود مكان يحميه ويحتمي به؟.. أو لربما استنباط الحالة المادية والمكانة الاجتماعية التي هو عليها اليوم، حين يعكس المنزل بفقره أو فخامته، بالحيز الجغرافي المقام فيه؟.. نعم، يعكس حال وأحوال الأشخاص، ويعطي مؤشراً عن تطورهم وتحسن ظروفهم أو ربما العكس..!
بيوتنا انعكاسٌ لذواتنا، تعريف بنا وباهتماماتنا وأذواقنا، لذا يتحول بناء بيت لنا عملاً شاقاً وصعباً لمن شاء أنْ تنعكس صورته في البيت الذي يؤسس، لذلك نرتبه ونزينه ونفرشه بأثاث يعكس ذوقنا ويعبّر عن نظرتنا للجوانب الجمالية في المكان من خلال ألوانه وتصميمه وطريقة تنسيقه.. بيوتنا انعكاسٌ لنا ولكنْ بأشكالٍ ماديَّة وديكورات!.. في بيتك مكتبة؟.. إذاً لا بُدّ أنْ تكون قارئاً نهماً، حيث تتناثر الكتب والدفاتر والأقلام حولك في كل حدب وصوب.. هذه هي الحال فيما لو كنت متذوقاً للفن، إذ ستعلو اللوحات جدران بيتك وفي كل ركن منه.. ببساطة المكان الذي نعيش فيه هو نحن، دفؤنا، محبتنا، وشغفنا.
فضلاً عن أنّ البيت يحمل معنى الاستقرار والأمان والحضن الذي نحتمي به، إليه نعود لنرتاح من أعباء ومتاعب الحياة والعمل والآخرين، هو أيضاً جنتنا حين يكون «الآخرون هم الجحيم» كما قال فيلسوف الوجودية سارتر ذات يوم.. فيه نمارس شغفنا بكل ما نحب من هوايات، لذلك ترانا نسعى لتكون بيوتنا مبعثاً للراحة والسكينة، فتصبح غرفة الجلوس والطاولة وفناجين القهوة، غرفة النوم وخزانة الملابس ورائحة العطر، وسائل تعبر عما في داخلنا وأعماقنا، تتطبع بطباعنا وأحياناً تأخذ بعضاً من ملامحنا.
لكنّ بيتنا الخاص لا بُدّ يحمل بين جنباته وجوانبه شيئاً من طفولتنا من بيت الأسرة حيث ولدنا وكبرنا.. في هذا السياق يقول غاستون باشلار في كتابه جماليات المكان: «إنَّ البيت الذي ولدنا فيه محفورٌ بشكلٍ مادي في داخلنا، إنه يصبح مجموعة من العادات العضويَّة. بعد مرور عشرين عاماً ورغم السلالم الكثيرة التي سرنا فوقها، فإننا نستعيد استجاباتنا للسلم الأول، فلن نتعثر بتلك الدرجة العالية بعض الشيء، إنَّ الوجود الكلي للبيت سوف ينفتح بأمانة لوجودنا، سوف ندفع الباب الذي يصدر صريراً بالحركة نفسها، كما نستطيع أنْ نجد طريقنا في الظلام إلى حجرة السطح البعيدة، إنَّ ملمس أصغر ترباس يظل باقياً في يدينا».
نبقى طيلة حياتنا نبحث عن مكانٍ نسكنه ويسكننا، نحتويه ويحتوينا، مكان نخبئ فيه أفراحنا وأحزاننا، لكنّ ذلك البيت العتيق، بيت الطفولة، يظل شاخصاً أمام أعيننا، يحضر بكل تفاصيله حينما نحكي مشاغباتنا الطفوليَّة، أو حبنا الأول، حين نتذكر أحباباً غيبهم الموت حيناً والغربة أحياناً، لذلك يكون البيت مرادفاً للوطن، كلما ابتعدنا عنه ازددنا تعلقاً به وحنيناً إليه، على الرغم من معاناتنا في كليهما البيت والوطن لكن ارتباطهما بأشخاص أكلنا وشربنا ومشينا ونمنا معهم، كفيلٌ بأنْ ينسينا الأوجاعَ ويبقي لحظات من فرحٍ مسروقٍ شاخصة أمامنا.
هو البيت مكمن الذاكرة والذكريات، في زواياه وتحت وسائده لطالما خبأنا تمائم آمنّا أنها ستحقق لنا حلماً أو تعيد حبيباً أو تشفي مريضاً.. هو حفظ أسرارنا، وكفكف دموعنا، سمع صراخنا.. فيه نضجنا وانطلقنا للحياة.