ستراتيجية التفاوض

آراء 2021/02/14
...

 د. سيف الدين زمان الدراجي
“إن كنت تعلم قدراتك وقدرات خصمك، فما عليك أن تخشى من نتائج مئة معركة. وإن كنت تعرف قدرات نفسك، وتجهل قدرات خصمك، فلسوف تعاني من هزيمة ما في كل نصر مُكتسب. أما إن كنت تجهل قدرات نفسك، وتجهل قدرات عدوك، فستواجه الهزيمة المؤكدة في كل معركة”. الفيلسوف والجنرال الصيني “Sun Tzu” من كتابه “فن الحرب”. ضمن إطار عمل الستراتيجيات الوطنية، تحرص الدول على تطوير سياساتها وبلوغ أهدافها “Ends” بعد معرفة قدراتها وتحديد مواردها المتوفرة “Means” وفق طرق وآليات مرنة وقابلة للتطبيق “Ways”.
تضع الدول تصوراً كاملاً لعناصر قوتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والمعلوماتية التي تمكنها من تحقيق القدر الاكبر من مصالحها والدفاع عن حقوقها ومكتسباتها وتعزيز مواقفها الدولية والإقليمية قبيل الخوض في أي مهمة تفاوضية.
‏تُعد ستراتيجية التفاوض واحدة من أهم الوسائل التي تعتمد عليها الدول في تسوية خلافاتها بُغية تحقيق اكبر قدر ممكن من المكاسب. ويعرف التفاوض بـ “أنه سلسلة من النقاشات والمحادثات التي تهدف للوصول إلى اتفاقات”. كما ويقول عنه وليام شكسبير بـ “أنه فن تقسيم الكعكة بطريقة ينصرف بعدها كل من الحضور معتقداً أنه حصل على الجزء الأكبر”.
يتخذ التفاوض أشكالا أخرى بما فيها المساومة أو الإخضاع التي تفضي إلى أن يرضخ أحد الطرفين في نهاية المطاف سعياً للحيلولة دون الوصول للانهيار التام أو الخسارة الأكبر. كما ويعد كل من مصطلحي الوساطة والتحكيم فضلا عن التسوية صورا أخرى يمكن استخدامها في إطار عملية التفاوض الأكثر شمولاً. يشترط في عملية التفاوض وجود طرفين على أقل تقدير - وقد يكون هناك طرف ثالث او اكثر- ويمكن عدها أحد السلوكيات الاجتماعية التي تختلف ‏من فئة إلى أخرى عبر الزمان والمكان وفقاً للمستويات التفاوضية وانواعها وأهدافها.
قد يأخذ التفاوض أشكالا عدة ولعلنا نشهد يومياً عشرات عمليات التفاوض من خلال معاملاتنا في البيع والشراء لأبسط الحاجات، لننتقل إلى مستويات أعلى في ما يخص نزاعات ومناكفات سياسية وعسكرية واقتصادية وغيرها. فضلاً عن صراعات السيطرة والنفوذ وفرض المصالح والإرادات داخل المؤسسة الواحدة، ومن ثم بين المؤسسات المختلفة داخل البلد الواحد، لننتقل بعدها لمستويات أعلى في ما يخص الدول والمنظمات والجهات الحكومية وغير الحكومية. 
من غير الممكن أن نُحيط بهذا الفن أو العلم إحاطة تامة ولكننا سنحاول التطرق لبعض المفاهيم والتكتيكات التي نعتقد بأنها تحقق فهما أوسع لجوهر وأهمية ستراتيجية التفاوض. وسنركز على العلاقة بين الدول من منظورِ أشمل.
هناك ثلاثة مفاهيم أساسية تعتمد عليها ستراتيجية التفاوض وهي:
 المواقف والمصالح والاحتياجات الفعلية.
• المواقف: تُعَد المواقف التي تطرحها الفرق التفاوضية اوراق لعب، منها القيمة وغير القيمة، ولكل ورقة غاية ومغزى وهدف، معلن وغير معلن. ‏تتغير المواقف وفقا للمصالح والاحتياجات.
• المصالح: تهدف الفرق التفاوضية إلى تحقيق اكبر قدر ممكن من مصالح دولها وشعوبها، وفق ما تمتلكه الدول من عناصر قوة. ووفق ما يمتلكه الفريق التفاوضي من قدرات ذاتية وإمكانيات شخصية. قد لا يمكن تحقيق كل المصالح التي تهدف إليها الدول وفرقها التفاوضية، وقد يتم التنازل عن بعضها مقابل تحقيق الاحتياجات الفعلية. 
• الاحتياجات الفعلية: هو ما يجب الحصول عليه فعلاً. خلاف ذلك، يُعد مؤشر فشل في الأداء التفاوضي، الأمر الذي قد يتسبب بفشل عملية التفاوض برمتها. تعد الاحتياجات الفعلية واحدة من العوامل الثابتة التي لا بد أن تتواءم مع متطلباتها كل من المواقف والمصالح. 
ضمن هذا السياق، لا بد من الاشارة الى مقومات التفاوض، والتي يمكن إيجازها بـ :
• فهم واسع للقدرات والإمكانيات والاحتياجات، وتحديد الأهداف والمواقف والوسائل التي ستنتهجها الفرق للوصول لاتفاقات تضمن تحقيق أهدافها المرسومة واحتياجاتها الفعلية.
• تفهم مواقف الطرف المقابل، “ضع نفسك في مكانه”، ودراسة الدوافع والاهداف والإنجازات التي يسعى لتحقيقها، فضلا عن العواقب المترتبة جراء عدم تحقيق ما جُلِسَ من أجله على طاولة التفاوض.
• التحضير بشكل جيد مسبقاً، وقبل البدء بعملية التفاوض، من خلال جمع المعلومات اللازمة عن مواقف الطرف الآخر وشخصيات الفريق التفاوضي، عبر المصادر المفتوحة والسرية- الاستخبارية- وقد يتم ذلك من خلال طرفِ ثالث. 
• وضع خطط بديلة، وعدم افتراض مواقف مُسبقة. والاستعداد لتغيير تنفيذ الستراتيجية التفاوضية تبعاً للمستجدات. 
• تطوير مفاهيم الذكاء العاطفي، وإظهار الامتنان، تجاه المواقف الإيجابية للطرف المقابل.
• تشكيل فريق مُتجانس، كفوء ومُتكيف بشكل مستمر، يؤدي كل فردٍ فيه المهام المُكلف بها وفق ماتم الإعداد والتحضير له.
في ظل ما ذُكر أعلاه، فهناك حاجة للتعرف على عدد من المواصفات والخصائص التي من الضروري أن يتحلى بها من يأخذ على عاتقه الاضطلاع بهذه المسؤولية. “يجب على المفاوض أن يراقب كل شيء. فعليه أن يكون المحقق العالمي شارلوك هولمز في مواقف معينة، وعالم التحليل النفسي سيجمون فرويد في مواقف أخرى “Victor Kiam”  
ومن هذه المواصفات:
• مهارات الإنصات، من حيث الاستماع الجيد ومراقبة سلوك الآخرين وفهم ما يقولونه وما يودون إيصاله من رسائل بشكل مباشر وغير مباشر.
• مهارات التحليل، التي تتعلق بقدرة المفاوض على تحليل المشاكل وتقدير المواقف واقتراح الحلول. 
• السيطرة على النفس والهدوء وعدم التسرع في طرح المواقف وردود الأفعال.
• السمعة الحسنة وتطوير مهارات التواصل الفعال وبناء الثقة وحسن المظهر والإخلاص والكفاءة.
• احترام الطرف المقابل وتفهم مواقفه، والتركيز على المشتركات في بداية عملية التفاوض، مع التأكيد على ضرورة التمتع بمهارات الإقناع والمناورة. كما وتلعب العلاقات الشخصية الإيجابية التي يتمتع بها المفاوض دوراً كبيراً في الوصول إلى اتفاقات وتفاهمات مُشتركة، لذا من الأهمية بمكان أن يتم اختيار المفاوض الذي يتمتع بعلاقات شخصية واسعة ومقبولية وسط الأطراف المختلفة.
هناك أيضا متطلبات أخرى لا بد من الإشارة إليها تتعلق بعملية التفاوض، كأجندة اللقاء وطريقة الجلوس والشخصيات الحاضرة في الاجتماع ووقت الاستراحة - التي من الممكن استثمارها بشكل إيجابي لفسح المجال أمام الحوارات غير الرسمية للمساهمة في الوصول الى اتفاقات- فضلاً عن فهم واسع للغة، وثقافة الفريق المقابل في حال لم تكن اللغة مشتركة – ويمكن الإفادة من المختصين للتعرف على ثقافات الطرف الآخر والطرق المناسبة للتواصل المباشر الفعال. 
لايسعنا في هذا المقال ذكر أمثلة مُحددة عن أسباب نجاح أو فشل المفاوضات، فالأمثلة كثيرة بهذا الصدد، وليس ببعيد عنا ملف التفاوض النووي الإيراني، ومفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومفاوضات سد النهضة بين مصر وأثيوبيا ومفاوضات إيقاف النزاعات المسلحة في ليبيا واليمن وسوريا وغيرها. ولكن في خضم ذلك كله، فعلى المفاوض أن يتذكر دائما بأنه في الوقت الذي تُحدد فيه النقطة التي ستكون السبب في توقف المفاوضات، سيتحتم عليه أن يُقرر خطواته اللاحقة والبدائل المتوفرة وما سيترتب عليها من تداعيات، فقد يكون من الصعب أحياناً العودة الى قاعة المفاوضات بعد مُغادرتها.