جواد علي كسّار
العِلمُ يُراد أساساً للعمل وليس لنفسه، هذا المعنى تؤكده ثقافة المسلمين «العِلمُ مقرونٌ بالعمل» كما في الحديث الشريف، ويُفترض ألا تحيد عن ذلك ثقافة الفكر الإنساني. بيد أننا حين ننظر الآن إلى العمل الثقافي كونه جزءاً من المعرفة والعلم، نراه يعزب عن هذا المسار، فتتحوّل الثقافة إلى نقطة هروب، توفّر للمشتغل فيها ذرائع متنوعة وذكيَّة في تبرير الكسل والعجز عن ممارسة التغيير الحقيقي للواقع، وبناء المجد الشخصي حتى مع دمار الجماعة وضياعها!
فمن يعجز عن مواجهة الواقع مباشرة يهرب إلى التنظير والنشاط الثقافي. ومن لا يقوى على الكشف عن أسباب الأزمة الحقيقيَّة في ما حوله، يسارع إلى اتهام الناس في عقولهم وأفكارهم ورميهم في ثقافتهم وهويتهم وانتمائهم. وحين نحاول أنْ نترك اللغة العامَّة ونقترب أكثر من المصاديق نجد منحىً خطيراً في ثقافتنا جميعاً إسلاميين وعلمانيين، يتجسّد في تكثيف النشاط الفكري والثقافي مقابل ضآلة الاهتمام بواقع الناس.
من البديهي أنَّ المسألة لا تعكس نفسها بمثل هذه السهولة التي نتحدّث بها، إنما تأتي من وراء تنظير تعضده مناهج متقدّمة تنطلق من بديهيات لا مجال للشك بها، من نظير القول إنَّ الفكر والمعرفة أو الوعي المؤسّس على العلم، هو أساسُ كلّ نشاطٍ يهدفُ إلى التغيير في الحقل الاجتماعي العام. ومن قبيل القول إنَّ إصلاح الفكر عامَّة، ومناهج التفكير خاصَّة، هو الشرط الذي يتقدّم على أي شرطٍ آخر في ممارسة التغيير. هذا الكلام كما نلاحظ منطقيٌّ لا تثريب فيه. إنما المشكلة تبدأ بالتبلور والظهور، حين نحوّل تحصيل الوعي أو إصلاح الفكر ومناهج التفكير إلى أهدافٍ نهائيَّة وغايات أخيرة، فتبدو مطلوبة لنفسها أكثر مما تكون مقدّمة للواجب، الذي نعني به تغيير واقع المجتمع والارتقاء بحياة الإنسان نفسه.
المشكلة تتجلى في مظهرٍ آخر من مظاهرها حين تتحوّل ساحة العمل الفكري والثقافي، إلى ميدانٍ للتباري في اصطناع المناهج النقديَّة لفكر الجماعة وثقافتها، والتفنن في التنظير وصياغة المشروع تلو الآخر، خاصة وأنَّ ما يزيد في ذلك أنَّ الثقافة تحمل بذاتها مرونة تؤلف إغراءً ثميناً لجرّ الإنسان نحو السجال إلى نهاية حياته.
من الواضح أنَّ العمل الثقافي حين تتكثّف ممارسته على هذا النحو سيحجب المفكر والمثقف عن الواقع، ويدفع الفكر والثقافة إلى ضربٍ من الفوقيَّة والتعالي المقيتين.
حديث الفكر لا ينبغي أنْ يكون مخادعاً، كما ينبغي للهمّ الثقافي أنْ لا يزوّر الواقع كما هو حاصلٌ الآن، حين تحوّلت الثقافة إلى متراسٍ للاحتماء والتواري عن تحمّل المسؤوليات العمليَّة. أي تحوّلت الثقافة إلى نقطة هروبٍ للمثقف، وممارسة تنتهي بتزييف الواقع من خلال حجب العناصر الحقيقيَّة واصطناع «إشكاليات» سجاليَّة زائفة لا يمكن وضع حدٍ نهائيٍ لها، ما دام العقل البشري قادراً على توليد الأفكار عبر التحليل والتركيب!