تُعيدني معارض الكتاب ومواسمه إلى البيئة المتخلفة التي نشأتُ فيها، حيث لم تكن ثقافة المكتبات العامة والبيتية مألوفة في المدينة، وإن كانت فلا أعرف عنها شيئاً. كانت الثقافة الاجتماعية في خطّها العام تميل إلى أيّ شيء؛ إلى هدر الأوقات في المقاهي وأدوات اللهو كالدومينو والطاولي والزار (أدوات تجمع بين اللهو والقمار)، لكنْ من دون عناية تُذكر بالمكتبة والكتاب وثقافة القراءة. وعلى مستوى البيوت التي أعرفها، فيمكن الاهتمام بالأثاث وطبعاً بثقافة الطعام وغير ذلك، لكن من دون أي تفكير بأنْ يتضمن البيت زاوية تضمّ مكتبة صغيرة، حتى بالنسبة إلى بيوت الأغنياء والمترفين وذوي الوجاهة الاجتماعيَّة والدينيَّة، على الأقل بالنسبة إلى البيوت التي كنت أعرفها وأزورها.
أقلّ ما يقال عنها إنها بيئة متخلفة تفتقر إلى أدنى مستلزمات الحياة الثقافيَّة والمعرفيَّة، عندما أذكرها الآنْ أشعر بالمرارة والكآبة والبؤس الممزوج بالحنق والغيظ على تلك الأوضاع، التي حرمتنا الفرص الثقافيَّة الكريمة، وأضاعت السنوات الأولى من حياتنا هدراً!! أما على المستوى العام فلم أكنْ أعرف في تلك المرحلة من عمري، إلا مكتبة عامَّة واحدة وثانية تعرفت عليها بعد سنوات في مرحلة الدراسة الثانويَّة. أقصد بالأولى مكتبة كربلاء المركزية، التي لم أزرها في المرحلة الابتدائيَّة من حياتي، إنما كانت أول رؤيتي لها في مرحلة الدراسة الثانويَّة. أما الثانيَّة، فهي المكتبة العامَّة في صحن أبي الفضل العباس بن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، التي لم أزرها إلا في المرحلة الثانويَّة، وعثرت فيها على ذخائر من كتب الثقافة، لا يزال بعضها يستحقّ هذه الصفة حتى بعد مرور عقود على تعرفي
عليها.
بشأن مكتبات السوق التي ينبغي أنْ توفر المجلات والكتب والصحف، فلا أذكر منها شيئاً في تلك السنين، عدا ملامح ربما تكون خاطئة، إذ أذكر وجود مكتبة أو اثنتين في شارع قبلة الإمام الحسين عليه السلام، ربما كانت إحداها تحمل اسم مكتبة العادلي.
أما المدارس فلا أذكر شيئاً عن مكتباتها، أو على الأقلّ بالنسبة إلى مدرسة السبط الابتدائيَّة التي أمضيت فيها ستّ سنوات. وربما هي الحال نفسها، بشأن بقية المدارس الابتدائيَّة في المدينة.
هذه ليست تفاصيل لا أهمية لها، إنما هي كلمات ناتئة في مرحلة عمريَّة وبيئة أسريَّة بيتيَّة واجتماعيَّة موغلة بالجهل والعناية بكثير من الأشياء، عدا الكتاب والمجلة والصحيفة وما يمتّ إلى الثقافة والمعرفة بصلة. لا ريب أنَّ المشهد مختلفٌ الآن بالكامل، وسط تراكم المكتبات وكثرة مواسم الكتاب ومعارضه، والأهمّ الانتشار المذهل للمكتبات الرقميَّة، وكثيرٌ منها بالمجان، لكنْ يبقى السؤال: لماذا لم تنتعش معدلات القراءة، بل هي في انحدار، وأين يكمن
الخلل؟!