ريسان الخزعلي
في كل مدن العالم المتحضرة، تزدان الشوارع والساحات بنصب وتماثيل تعكس الوجه التاريخي والحضاري والثقافي والاجتماعي والبطولي لشعوب تلك المدن؛ ويجرى الاهتمام بها بشكل مستمر، من حيث الصيانة والنظافة والتجميل بالأزهار .
وغالباً ما تظهر هذه النصب والتماثيل في الفولدرات والنشريات والطوابع البريدية وبطاقات الأعياد للتعريف بها، ونتيجة للتعريف هذا أصبحت محطات يقصدها السيّاح والزوّار، يتأملونها ويلتقطون الصور قربها .في بلدنا العزيز كان نصب الحرية للفنان الكبير جواد سليم شاخصاً فنياً يعكس الكثير من تاريخ العراق، قديمه وحديث، حتى أصبح الدالة الأولى إلى قلب بغداد والعراق، وقد توقّفت الملايين أمامه، تحية ً وإعجاباً وتأملاً في المعنى.
وفي مدن العراق، كان للنصب والتماثيل وجود يرتبط بتاريخ الإبداع: السياب والفراهيدي في البصرة، المتنبي وأبو نواس والجواهري والرصافي والكاظمي وشهريار وشهرزاد وعباس بن فرناس في بغداد، ثورة العشرين في النجف، الحبوبي في الناصرية، مصطفى جواد في ديالى، عبد الجبار عبد الله وتسواهن في ميسان، وغيرها، وما زال الطموح كبيراً في انشاء نصب وتماثيل أخرى في كل المدن العراقية، كي تعكس حضورها في الزمن والتواصل
الحضاري.
إن َّ مناسبة الإشارة هذه، هو الالتفات إلى ما يجري أحياناً من حديث عن/ نصب بغداد/ في ساحة الأندلس للفنان الراحل/ محمد غني حكمت/ بأنه ُ شبيه بنصب الشيطان! ويُفترض ازالته! . وللتوضيح نقول: إنَّ هذا النصب بارتفاعه الشامخ، يُشير إلى العُلو، ويُصوّر بغداد فاتنةً تضع ساقاً على ساق باسترخاءٍ لذيذ، وبعينين ترنوان صوب دجلة دالّة الخصب والنماء .
إنَّ النصب الذي يطلقون عليه نصب الشيطان لا يقترب شكلاً ومضموناً من نصب بغداد، كون قاعدة الأخير لم تكن اسطوانية كما في نصب الشيطان، كما أنَّ قاعدته قد زُيّنت بأبيات شعرية عن بغداد لكبار الشعراء، فأين هذا من ذاك؟ و
يمكن القول أيضاً: إنَّ ابداع الفنان محمد غني حكمت لا تُحرّكهُ الروح الشيطانية المدمرة، وإنما تحركهُ جماليات الإبداع وضرورة الفن في الحياة من أجل انسان أرقى وحياة أنقى ووجود أبقى، وإنَّ التهيؤات الشيطانية لم تكن إلّا في عقول أصحابها
فقط.