مثابات التراث

منصة 2021/03/02
...

حكمت البخاتي 
 
وبالقدر الذي لا يخلو فيه تراث كل الأمم من الرؤية السلبية تجاه الآخر فإنَّ كل تراث يحمل أيضاً توقعات وسلوكيات التواصل مع الآخر وهو يؤشر ذلك التعايش بين الأديان والملل والنحل في مجتمعات العالم القديم وإنْ كانت أحياناً تضيق لكنها حقيقة تاريخيَّة غالباً ما تجاهلتها الدراسات الأيديولوجيَّة المعنيَّة بتاريخ وحضارات الأديان، وقد أشارت الدراسات الاستشراقية الى ظاهرة التعايش في الحضارة والمجتمعات الإسلاميَّة.
فقد انخرط المجتمع الإسلامي مبكراً في جغرافيا التواصل من خلال الفتوحات وانخرط في تاريخ التعايش من خلال الاتصال المعرفي والعلمي مع أديان ومذاهب كانت تشكل الآخر المختلف وأحياناً المضاد وفي الغالب الآخر المؤتلف وهو ما يفسر ذلك التواصل المستمر للديانات اليهودية والمسيحية في مجتمعات الحضارة الإسلامية.
ونجد جذر هذا التواصل وأصل ذلك التعايش في القرآن الكريم وهو الجذر الديني والمؤسس الأول في التراث الإسلامي وهو يشكل أو تتشكل فيه مثابات البناء والتواصل وبصبغتها الدينية وسماتها الإسلامية، وكان الآخر في القرآن الكريم الذي يشكل موضوع التواصل وبناء العلاقة الناضجة دينياً معه هم أهل الكتاب الذين كانوا يشغلون جزءاً مهماً وأساسياً في محاججات القرآن الكريم كشهودٍ على المحاججة في القرآن المكي أو كأطرافٍ في المحاججة في القرآن المدني.. وتقوم فكرة المحاججة في القرآن على مبدأ الحوار الإلهي مع البشر.
وفي تلك المثابات (المحاججات/ الحوارات) كان القرآن يستدل على المعاني المؤسسة فيه والمتضمنة في آياته وهو الموضوع الأول في محاججته بشهود الجبلة أو النزعة الفطريَّة في الإنسان ويستدل على تجذير الأخبار في تاريخ النبوات وهو الموضوع الثاني في محاججته بشهادة أهل الكتاب وهو يتضمن حكماً تقييمياً في أهل الكتاب من وجهة نظر القرآن فأسمى النخبة العالمة فيهم بأهل الذكر وحاجج المشركين المكيين بسؤالهم قال تعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون) الأنبياء 7 والنحل 43.
وجاء في التفسير أنهم أهل كل كتاب من قبل وقيل الذين قرؤوا التوراة والإنجيل – تفسير الطبري.
وكانت العرب في جاهليتهم يصغون الى أهل الكتاب ويعدونهم مرجعاً معرفياً أساسياً وكان علم أهل الكتاب يشكل مصدراً من مصادر المعرفة في المنطقة، وهو ما منح شهادتهم إمكانية الاحتجاج بها في القرآن الكريم.
واستمر هذا التبجيل المعرفي لأهل الكتاب في الإسلام عند العرب المسلمين، ولم تكن الإسرائيليات ذات الطابع المعرفي السلبي هي الصيغة الوحيدة للتأثيرات الكتابيَّة في المعرفة والثقافة الإسلاميتين، بل شهدت المعرفة الإسلامية استيعاباً علمياً ناقداً ومدروساً للمرويات الكتابيَّة كما نلحظه في التفاسير الإسلاميَّة للقرآن الكريم وتحفل بها كتب هذه التفاسير ونلحظه في علم التاريخ الإسلامي وتكثر في النقل منها كتب هذا التاريخ لا سيما المطولات منه كالطبري وابن الاثير. 
لكنْ دائماً تنصرف فكرة التأثيرات الكتابيَّة في المعرفة والثقافة الاسلامية الى يهود الجزيرة العربية، لا سيما أحبارهم الذين اعتنقوا الإسلام مثل عبد الله بن سلّام وكعب الأحبار ووهب بن منبه، بينما أشارت عدد من المصادر الى دور النصارى من المسيحيين في جزيرة العرب في ذلك التأثير المعرفي، فقد أشار الكاتب المتخصص في تاريخ العرب الجاهلي الدكتور جواد علي الى حجم الوجود النصراني – المسيحي وتأثيره في حواضر الجزيرة وبواديها وأنه كان بين العرب أساقفة شاركوا في المجامع الكنسية التي انعقدت في حواضر الدولة الرومانية وكان يطلق عليهم (أساقفة الخيام) و(أساقفة العرب) و(أساقفة أهل الوبر) وأنهم كانوا يعيشون في البادية العربية عيش أهل الوبر، وهو ما أشارت اليه التواريخ والمصادر الكنسية وفق جواد علي ولم تخل منه أيضا المصادر الإسلاميَّة وكانت مكة والطائف ويثرب من الحواضر العربيَّة التي شهدت حضوراً نصرانياً – مسيحياً مهماً تمثلت بالرقيق المسيحي الذي كان يجلبه تجار الرقيق من البلاد المجاورة وكان هذا الرقيق يحظى بثقافة دينيَّة كتابيَّة وتدوينيَّة ويشرحون ما جاء في التوراة والإنجيل للعرب في هذه الحواضر، بينما كان المبشرون المسيحيون ينتشرون في الجزيرة العربية ويدعون الى إلههم وترك الوثنية فانتشرت المسيحيَّة في بعض أحياء العرب ومنهم أسد بن عبد العزى في قريش ومنهم ورقة بن نوفل وفي امرئ القيس من زيد مناة في تميم وفي طيء وخارج الجزيرة في تغلب وسلح وتنوخ وغسان ولخم، والنصرانية العربية نصرانية شرقية تعنى بدراسة التوراة أكثر من دراستها الإنجيل وأصل اللفظ فيها كما يرى بعض المستشرقين (نصرويو) أو (نصرايا) وهو سرياني وقيل الأصل فيها عبري، ويذكر جواد علي أنها وردت في أعمال الرسل الاصحاح 24 الآية 5 – راجع تاريخ العرب قبل الاسلام د. جواد علي ج6 ص 582 وما بعدها. ويبدو أنَّ القرآن المكي حين كان يحاجج المشركين من قريش في مكة ويحيلهم الى ىسؤال أهل الذكر من أهل الكتاب فإنَّه كان يعني بأهل الذكر النصارى من المسيحيين من قارئي التوراة والإنجيل من ساكني ومجاوري البيت الحرام أو ما جاورها من الطائف، فلم يكن في مكة أحبار أو أشخاص من اليهود حتى يكون توجيه القرآن بسؤال أهل الذكر إليهم.
وهو ما أوجد تناغماً وانسجاماً بين النصارى والمسلمين الأولين، وقد أشار القرآن الكريم الى ذلك في قوله تعالى (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) المائدة / 82 و83 
وكان نزول سورة التوبة في السنة التاسعة للهجرة وبعد فتح مكة، لكن العاطفة الدينية الاسلامية كانت تصطف قبل ذلك الى جانب المسيحيين الرومان في حربهم مع الفرس فأخبر القرآن الكريم عن الود الاسلامي للروم بقوله تعالى (الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) الروم آيات 1و2و3، واختلف رواة التفسير في مكية ومدنية سورة الروم لكنهم أجمعوا على غلبة الفرس أولاً فأثار استياء المسلمين لأنهم مشركون في قولهم ثم أفرحت المسلمين غلبة الروم بعد بضع سنين لأنهم أهل كتاب وبعض المفسرين قرن فرح المسلمين بنصرهم على مشركي العرب ونصر الروم على مشركي الفرس – راجع تفسير الطبري-.
احتفظت الذاكرة الاسلامية بذكرى طيبة عن ردود ملوك المسيحية على رسائل النبي محمد "ص" وهم النجاشي ملك الحبشة والمقوقس عظيم مصر وهرقل قيصر الروم فقد أكرموا رسل النبي وردوهم بأجمل الكلمات – راجع تاريخ الطبري -. 
 ويبدو من ظاهر القرآن أنَّ هناك فئة من نصارى العرب تخلت عن الإيمان الكتابي - المسيحي وتبنوا الإيمان الوثني الجاهلي فلم يعودوا يؤمنون بالله واليوم الآخر وشاركوا المشركين من العرب في قتال المسلمين فأذن الله في قتالهم قال تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة 29، ولم يقل من أهل الكتاب لانتفائهم من أهل الكتاب بعد انتفاء الإيمان بالله واليوم الآخر منهم ويبدو من ظاهر الآية أنها شرط الجزية، ولم تنقل المأثورات الإسلامية من تاريخ وسِيَر عن قتال حدث بين المسلمين ونصارى العرب مما دعا المفسرين المسلمين الى صرفها الى قتال الروم في تبوك وانصراف الرسول والمسلمين عن هذه الحرب بعد ذلك – راجع تفسير ابن كثير – وجاء في عدد من آيات القرآن اقتران ذكر الذين كفروا من أهل الكتاب بالمشركين و"من" في هذه الآيات تبعيضية، ولم يكن أهل الكتاب في الدين على حال سواء مما يفند تعميم الحكم عليهم بالكفر قال تعالى (لَيْسُواْ سَوَاء مًّنْ أَهْلً الْكًتَابً أُمَّةّ قَآئًمَةّ يَتْلُونَ آيَاتً اللّهً آنَاء اللَّيْلً وَهُمْ يَسْجُدُونَ ، يُؤْمًنُونَ بًاللّهً وَالْيَوْمً الآخًرً وَيَأْمُرُونَ بًالْمَعْرُوفً وَيَنْهَوْنَ عَنً الْمُنكَرً وَيُسَارًعُونَ فًي الْخَيْرَاتً وَأُوْلَئًكَ مًنَ الصَّالًحًينَ ، وَمَا يَفْعَلُواْ مًنْ خَيْرْ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلًيمّ بًالْمُتَّقًينَ) آل عمران 113 و114و115. وظاهر الآيات يخالف ما ذهبت إليه بعض الآراء القديمة من تضييق آفاق هذه الآيات وتكشف عن مثابات اللقاء بين الاسلام وأديان السماء وفي تلك المثابات تتعزز محاور البناء في الإيمان والتواصل بين أهل الأديان من ذوي التقوى وأهل الصلاح وهو ما يجسده ذلك اللقاء الديني والتاريخي بين الحبر المسيحي وآية الله العظمى السيد علي السيستاني تحت ظلال مآذن وقباب أمير 
المؤمنين "ع".
وبالقدر الذي لا يخلو فيه تراث كل الأمم من الرؤية السلبية تجاه الآخر فإنَّ كل تراث يحمل أيضاً توقعات وسلوكيات التواصل مع الآخر وهو يؤشر ذلك التعايش بين الأديان والملل والنحل في مجتمعات العالم القديم وإنْ كانت أحياناً تضيق لكنها حقيقة تاريخيَّة غالباً ما تجاهلتها الدراسات الأيديولوجيَّة المعنيَّة بتاريخ وحضارات الأديان، وقد أشارت الدراسات الاستشراقية الى ظاهرة التعايش في الحضارة والمجتمعات الإسلاميَّة.
فقد انخرط المجتمع الإسلامي مبكراً في جغرافيا التواصل من خلال الفتوحات وانخرط في تاريخ التعايش من خلال الاتصال المعرفي والعلمي مع أديان ومذاهب كانت تشكل الآخر المختلف وأحياناً المضاد وفي الغالب الآخر المؤتلف وهو ما يفسر ذلك التواصل المستمر للديانات اليهودية والمسيحية في مجتمعات الحضارة الإسلامية.
ونجد جذر هذا التواصل وأصل ذلك التعايش في القرآن الكريم وهو الجذر الديني والمؤسس الأول في التراث الإسلامي وهو يشكل أو تتشكل فيه مثابات البناء والتواصل وبصبغتها الدينية وسماتها الإسلامية، وكان الآخر في القرآن الكريم الذي يشكل موضوع التواصل وبناء العلاقة الناضجة دينياً معه هم أهل الكتاب الذين كانوا يشغلون جزءاً مهماً وأساسياً في محاججات القرآن الكريم كشهودٍ على المحاججة في القرآن المكي أو كأطرافٍ في المحاججة في القرآن المدني.. وتقوم فكرة المحاججة في القرآن على مبدأ الحوار الإلهي مع البشر.
وفي تلك المثابات (المحاججات/ الحوارات) كان القرآن يستدل على المعاني المؤسسة فيه والمتضمنة في آياته وهو الموضوع الأول في محاججته بشهود الجبلة أو النزعة الفطريَّة في الإنسان ويستدل على تجذير الأخبار في تاريخ النبوات وهو الموضوع الثاني في محاججته بشهادة أهل الكتاب وهو يتضمن حكماً تقييمياً في أهل الكتاب من وجهة نظر القرآن فأسمى النخبة العالمة فيهم بأهل الذكر وحاجج المشركين المكيين بسؤالهم قال تعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون) الأنبياء 7 والنحل 43.
وجاء في التفسير أنهم أهل كل كتاب من قبل وقيل الذين قرؤوا التوراة والإنجيل – تفسير الطبري.
وكانت العرب في جاهليتهم يصغون الى أهل الكتاب ويعدونهم مرجعاً معرفياً أساسياً وكان علم أهل الكتاب يشكل مصدراً من مصادر المعرفة في المنطقة، وهو ما منح شهادتهم إمكانية الاحتجاج بها في القرآن الكريم.
واستمر هذا التبجيل المعرفي لأهل الكتاب في الإسلام عند العرب المسلمين، ولم تكن الإسرائيليات ذات الطابع المعرفي السلبي هي الصيغة الوحيدة للتأثيرات الكتابيَّة في المعرفة والثقافة الإسلاميتين، بل شهدت المعرفة الإسلامية استيعاباً علمياً ناقداً ومدروساً للمرويات الكتابيَّة كما نلحظه في التفاسير الإسلاميَّة للقرآن الكريم وتحفل بها كتب هذه التفاسير ونلحظه في علم التاريخ الإسلامي وتكثر في النقل منها كتب هذا التاريخ لا سيما المطولات منه كالطبري وابن الاثير. 
لكنْ دائماً تنصرف فكرة التأثيرات الكتابيَّة في المعرفة والثقافة الاسلامية الى يهود الجزيرة العربية، لا سيما أحبارهم الذين اعتنقوا الإسلام مثل عبد الله بن سلّام وكعب الأحبار ووهب بن منبه، بينما أشارت عدد من المصادر الى دور النصارى من المسيحيين في جزيرة العرب في ذلك التأثير المعرفي، فقد أشار الكاتب المتخصص في تاريخ العرب الجاهلي الدكتور جواد علي الى حجم الوجود النصراني – المسيحي وتأثيره في حواضر الجزيرة وبواديها وأنه كان بين العرب أساقفة شاركوا في المجامع الكنسية التي انعقدت في حواضر الدولة الرومانية وكان يطلق عليهم (أساقفة الخيام) و(أساقفة العرب) و(أساقفة أهل الوبر) وأنهم كانوا يعيشون في البادية العربية عيش أهل الوبر، وهو ما أشارت اليه التواريخ والمصادر الكنسية وفق جواد علي ولم تخل منه أيضا المصادر الإسلاميَّة وكانت مكة والطائف ويثرب من الحواضر العربيَّة التي شهدت حضوراً نصرانياً – مسيحياً مهماً تمثلت بالرقيق المسيحي الذي كان يجلبه تجار الرقيق من البلاد المجاورة وكان هذا الرقيق يحظى بثقافة دينيَّة كتابيَّة وتدوينيَّة ويشرحون ما جاء في التوراة والإنجيل للعرب في هذه الحواضر، بينما كان المبشرون المسيحيون ينتشرون في الجزيرة العربية ويدعون الى إلههم وترك الوثنية فانتشرت المسيحيَّة في بعض أحياء العرب ومنهم أسد بن عبد العزى في قريش ومنهم ورقة بن نوفل وفي امرئ القيس من زيد مناة في تميم وفي طيء وخارج الجزيرة في تغلب وسلح وتنوخ وغسان ولخم، والنصرانية العربية نصرانية شرقية تعنى بدراسة التوراة أكثر من دراستها الإنجيل وأصل اللفظ فيها كما يرى بعض المستشرقين (نصرويو) أو (نصرايا) وهو سرياني وقيل الأصل فيها عبري، ويذكر جواد علي أنها وردت في أعمال الرسل الاصحاح 24 الآية 5 – راجع تاريخ العرب قبل الاسلام د. جواد علي ج6 ص 582 وما بعدها. ويبدو أنَّ القرآن المكي حين كان يحاجج المشركين من قريش في مكة ويحيلهم الى ىسؤال أهل الذكر من أهل الكتاب فإنَّه كان يعني بأهل الذكر النصارى من المسيحيين من قارئي التوراة والإنجيل من ساكني ومجاوري البيت الحرام أو ما جاورها من الطائف، فلم يكن في مكة أحبار أو أشخاص من اليهود حتى يكون توجيه القرآن بسؤال أهل الذكر إليهم.
وهو ما أوجد تناغماً وانسجاماً بين النصارى والمسلمين الأولين، وقد أشار القرآن الكريم الى ذلك في قوله تعالى (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) المائدة / 82 و83 
وكان نزول سورة التوبة في السنة التاسعة للهجرة وبعد فتح مكة، لكن العاطفة الدينية الاسلامية كانت تصطف قبل ذلك الى جانب المسيحيين الرومان في حربهم مع الفرس فأخبر القرآن الكريم عن الود الاسلامي للروم بقوله تعالى (الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) الروم آيات 1و2و3، واختلف رواة التفسير في مكية ومدنية سورة الروم لكنهم أجمعوا على غلبة الفرس أولاً فأثار استياء المسلمين لأنهم مشركون في قولهم ثم أفرحت المسلمين غلبة الروم بعد بضع سنين لأنهم أهل كتاب وبعض المفسرين قرن فرح المسلمين بنصرهم على مشركي العرب ونصر الروم على مشركي الفرس – راجع تفسير الطبري-.
احتفظت الذاكرة الاسلامية بذكرى طيبة عن ردود ملوك المسيحية على رسائل النبي محمد "ص" وهم النجاشي ملك الحبشة والمقوقس عظيم مصر وهرقل قيصر الروم فقد أكرموا رسل النبي وردوهم بأجمل الكلمات – راجع تاريخ الطبري -. 
 ويبدو من ظاهر القرآن أنَّ هناك فئة من نصارى العرب تخلت عن الإيمان الكتابي - المسيحي وتبنوا الإيمان الوثني الجاهلي فلم يعودوا يؤمنون بالله واليوم الآخر وشاركوا المشركين من العرب في قتال المسلمين فأذن الله في قتالهم قال تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة 29، ولم يقل من أهل الكتاب لانتفائهم من أهل الكتاب بعد انتفاء الإيمان بالله واليوم الآخر منهم ويبدو من ظاهر الآية أنها شرط الجزية، ولم تنقل المأثورات الإسلامية من تاريخ وسِيَر عن قتال حدث بين المسلمين ونصارى العرب مما دعا المفسرين المسلمين الى صرفها الى قتال الروم في تبوك وانصراف الرسول والمسلمين عن هذه الحرب بعد ذلك – راجع تفسير ابن كثير – وجاء في عدد من آيات القرآن اقتران ذكر الذين كفروا من أهل الكتاب بالمشركين و"من" في هذه الآيات تبعيضية، ولم يكن أهل الكتاب في الدين على حال سواء مما يفند تعميم الحكم عليهم بالكفر قال تعالى (لَيْسُواْ سَوَاء مًّنْ أَهْلً الْكًتَابً أُمَّةّ قَآئًمَةّ يَتْلُونَ آيَاتً اللّهً آنَاء اللَّيْلً وَهُمْ يَسْجُدُونَ ، يُؤْمًنُونَ بًاللّهً وَالْيَوْمً الآخًرً وَيَأْمُرُونَ بًالْمَعْرُوفً وَيَنْهَوْنَ عَنً الْمُنكَرً وَيُسَارًعُونَ فًي الْخَيْرَاتً وَأُوْلَئًكَ مًنَ الصَّالًحًينَ ، وَمَا يَفْعَلُواْ مًنْ خَيْرْ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلًيمّ بًالْمُتَّقًينَ) آل عمران 113 و114و115. وظاهر الآيات يخالف ما ذهبت إليه بعض الآراء القديمة من تضييق آفاق هذه الآيات وتكشف عن مثابات اللقاء بين الاسلام وأديان السماء وفي تلك المثابات تتعزز محاور البناء في الإيمان والتواصل بين أهل الأديان من ذوي التقوى وأهل الصلاح وهو ما يجسده ذلك اللقاء الديني والتاريخي بين الحبر المسيحي وآية الله العظمى السيد علي السيستاني تحت ظلال مآذن وقباب أمير 
المؤمنين "ع".