علي المرهج
يرتبط خطاب الاستشراق بالحركة الفكرية التي بدأها الاستعمار في توظيف الكثير من المثقفين والفنانين والآثاريين والرحالة للتوجه للشرق، ومعرفة أسرار مجتمعه وتاريخه، الأمر الذي ساعد الشرق نفسه على معرفة تاريخه، وإن لم يكن بقصد تعريفه به بقدر ما كان محاولة لمعرفة الطرق الأفضل لاستغلاله. يتفرع الاستشراق بحسب تخصص المستشرقين، فقد يكون هناك استشراق أركيولوجي، وآخر فلسفي، وآخر تراثي (ديني)،
والأغلب في الدراسات الاستشراقية كما يذهب لذلك محمد أركون يغلب عليها المنهج (الفيلولوجي)، وهو منهج يهتم بتحقيق النصوص التي يغلب عليها الطابع التنقيبي، عبر دراسة نصوص الحضارة الشرقية القديمة، لذلك هو مرتبط بالمنهج الأركيولوجي.
يرتبط الاستشراق بعلوم الأنثربولوجيا، وذلك ما أشار له إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” حينما ركز على أن مقولة الاستشراق مبنية في الأصل على علاقة (مستعمر) (بكسر التاء) مع (مستعمر) (بضم الميم وفتح التاء)، وهذه العلاقة بين الأنثربولوجيا وبين الاستشراق، علاقة صاغتها فكرة الربط بين (السلطة والمعرفة)، كما تحدث عن ذلك ميشيل فوكو، الذي وظف إدوارد سعيد مقولاته في هذا الصدد، فالاستعمار قوة سلطة، والمستشرقون قوة معرفة، فانقسم الاستشراق إلى قسمين: قسم نفع الشرق وأهله، وآخر نفع الغرب في سعيه (الكولنيالي)، وقد يكون للمستشرقين همٌ آخر هو همُ المعرفة، ولا يشغلهم من يستفيد، بقدر ما هم منهمكون في معرفة عوالم الشرق.
لم يكن خطاب الاستشراق خطاباً بريئاً، لأنه قراءة “الآخر” السيد للـ “أنا” مغايرة، هي العبد، وبكل ما حمله من خطاب انتفع فيه الباحثون العرب، لكنه لم يخرج عن تصدير فكرة “الآخر” بمركزيته، ليحتوي على خطاب المستضعفين ويُعيد إنتاجه.
الاستشراق خطابات مُتعددة وليس خطاباً واحداً يُمكن لنا تأطيره أو تحديده كما ذهب (إدوارد سعيد) في كتابه، فالاستشراق خطاب نفي للـ “أنا” المقروءة، ولكنه خطاب تنمية للوعي المعرفي بتراثنا الغائب، ولم يكن له حضور فاعل لولا سعي كثير من المُستشرقين على اختلاف مآربهم لاستنهاضه وتعريفنا قبل الآخرين بقيمته، فكان لبحثهم وتنقيبهم الأثر الكبير في معرفتنا لتراثنا والكشف عن المخطوطات وتحقيقها ساعة كُنَا في غفلة من أمرنا ولا دراية لنا بقيمته.
لقد تفوق “الآخر” علينا حتى في سعيه للكشف عن مورثنا، لأن “الأنا” مُستغرقة في غفوتها والنوم، فكان سعيه يفوق سعينا لمعرفة ذاتنا المُتشظية عبر مراحل التاريخ، رغم ما في الاستشراق من وجه آخر متضامن مع السعي “الكولينالي” للهيمنة على بُلدان الشرق الأوسط والعالم الإسلامي و “التمركز” (الغربي) حول الذات” بعبارة عبدالله إبراهيم، فبقيت الذات أسيرة مقولة “المطابقة والاختلاف” أيضاً بعبارة عبدالله إبراهيم، ففكر “المطابقة” يسعى إلى الانغماس في التراث والغوص فيه والهيام في سحر مقولاته، وجماعة “الاختلاف”، يسعون للمُغايرة ونسف مقولات التراث وتوهمات أصحابه.
قيل في المثل العربي “إن الناس أعداء ما جهلوا”، ولكنني أرى أن معرفة “الآخر” أحد أسباب رفضه، وجهل “الآخر” سبب أكبر للرفض، فمعرفة “الآخر” تعني الغوص أكثر في أنماط تحولاته المعرفية وجذور مُتبنياته الأيديولوجية التي ـ ربما ـ فيها اختلاف في التبني، فعادةً ما يكون أساس التبني عند “الآخر” قائما على الاستنباط والمعرفة البرهانية، في ما يكون نمط المعرفة عندنا قائما على الوجدان والمعرفة الباطنية أو “العرفانية”، وربما يكون هذا الفارق المعرفي أحد أسباب الرفض لا القبول لـ “الآخر”، لمعرفتنا باختلافنا وافتراقنا في الرؤية و المنهج، أما في جهلنا له ففيه قصد واضح وإمعانٌ في الرفض، فليس من ثقافتنا قبول المُعارض وليس منا من كان مُخالفاً لنا في الرأي والمُعتقد.