فكتور غلنسكي وهنري سوكولسكي ترجمة وإعداد: أنيس الصفار
في مقالة لمجلة «نيويوركر» كشف «آدم إنتاوس» أن كل رئيس أميركي تولى المنصب منذ «بيل كلنتون» كان يوقع، بمطالبة من اسرائيل، خطاباً سرياً يتعهد فيه بأن لا تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً عليها لجعلها تتخلى عن اسلحتها النووية ما دامت تواجه تهديدات لوجودها في المنطقة، لكن الوقت حان للتوقف عن هذا التقليد المهين.
كانت نتيجة هذه السياسة الأميركية هي احتفاظ اسرائيل بأسلحتها النووية، رغم أن التخلي عنها هو السبيل الوحيد المنسجم مع سياسة أميركا للحد من انتشار الاسلحة.
بدلاً من ذلك نشطت واشنطن في تزويد اسرائيل بالعون على الصعيدين: الدبلوماسي (من خلال منع اية محاولة لطرح موضوع أسلحتها على المنابر الدولية)، والمادي (من خلال التغاضي عن انتهاكاتها للقانون في ما يتعلق بالنووي).
لعل أسوأ النتائج التي تولدت عن الاستجابة لرغبة اسرائيل وتوقيع تلك الخطابات هي ان الحكومة الأميركية قد اختارت بذلك التعامي طوعياً من خلال التظاهر بعدم معرفة شيء عن اسلحة اسرائيل النووية، وبذا قوضت جهودها لانتهاج سياسة متماسكة بناءة.
إمعاناً في فرضها هذا التعامي المتعمد على جميع المرافق الحكومية، في وقت يعلم فيه كل من له أدنى اهتمام بالموضوع حقيقة الأمر، نشرت الحكومة الأميركية ضوابط إدارية توعدت بها أي موظف حكومي يعترف أن لدى اسرائيل اسلحة نووية بأشد العقوبات، وبطبيعة الحال حجب هذا الأمر عن الرأي العام تذرعاً بقراءة ملتوية لقانون حرية المعلومات.
ثمة رواية لم يمكن التثبت من صدقها مفادها أن إبقاء هذا الأمر لغزاً كان أساسه تفاهما سريا أبرم في العام 1969 بين الرئيس الأميركي الاسبق «ريتشارد نيكسون» ورئيسة الوزراء الاسرائيلية السابقة «غولدا مائير».
إذ يعتقد انها وعدت بعدم اجراء اختبارات نووية ووعدها نيكسون بالمقابل ألا يكون هناك ضغط على اسرائيل لجعلها توقع «اتفاقية عدم انتشار» او الكشف عن اسلحتها النووية.
المشكلة هنا هي ان الاتفاق المشار اليه، الذي يوقن به المؤرخون والمسؤولون تمام اليقين، هي انه أبرم بين نيكسون ومائير وحدهما من دون حضور اي مساعدين او حتى وزير الخارجية العتيد «هنري كسنجر»، كما لا توجد وثائق مكتوبة لإثبات طبيعة المحادثات.
رغم هذا تمكنت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة من جر المسؤولين الأميركيين الى الرضوخ لهذا الالتزام ومواصلة حماية اسلحتها النووية من الكشف او التعرض
للانتقاد.
بيد أن المهدّد الآن بات اكثر من ذلك بكثير إذ أصبح الانتشار النووي في المنطقة مصدر قلق عالمي متنامٍ.
فالحكومة التي لا تستطيع الاعتراف بأن اسرائيل تمتلك اسلحة نووية لن تكون لها المصداقية لبحث موضوع انتشار الاسلحة في أماكن أخرى من الشرق الأوسط، وهذا يجرنا الى حماقة أخرى.
فمؤتمر مراجعة حظر الانتشار الذي انعقد في 2010 صوت بالاجماع لصالح عقد مؤتمر شرق أوسطي تناقش فيه مشكلات حظر الاسلحة النووية.
ولكن بعد يوم واحد من تصويت الوفد الأميركي لصالح هذه القضية خرج أوباما ليعلن ان أميركا تعارض بقوة اي مساعٍ لتحديد اسرائيل بالاسم، وانها ستتصدى لأية اجراءات تهدد الأمن القومي الاسرائيلي.
يقول الباحث «آفنر كوهن» ان اسرائيل تصر على سياسة التكتم وإبقاء حالة الغموض رغم ان مصلحتها من وراء ذلك غير مؤكدة، لكن المؤكد هو انه ليس في صالح الولايات المتحدة.
لنا أن نتصور تأثير هذا التصريح على مصداقية الولايات المتحدة حين حديثها عن ضرورة كبح انتشار الاسلحة النووية.
هذه المصداقية لها اهمية حاسمة اليوم إذ يلقي ولي العهد السعودي والرئيس التركي ظلال شك على تعهداتهما بعدم السعي وراء الأسلحة النووية، وكذلك إيران التي تحيط الشكوك بمستقبلها النووي.
وزير الخارجية المصري ايضاً يقول ان مصر سوف تطرح من جديد قضية خلو الشرق الأوسط من الاسلحة النووية في مؤتمر مراجعة حظر الانتشار المقرر عقده في آب 2021.
سلوك الولايات المتحدة بهذا الصدد متناغم مع سياسة الغموض الاسرائيلية، ولكنْ ثمة اختلاف هنا، فالرؤساء الأميركيون يوقعون على خطاب يلزمهم بالصمت بينما يتعمد الاسرائيليون التبجح بأسلحتهم تلك مع الامتناع عن نطق كلمة «نووي».
للاسرائيليين ثالوث أساسي يتمثل بصواريخ ارضية ذات رؤوس نووية (من تصميم فرنسي) وطائرات قادرة على حمل اسلحة نووية (من تصميم أميركي) وغواصات ألمانية متقدمة مسلحة بصواريخ كروز اسرائيلية بعيدة المدى ذات رؤوس نووية.
عندما وصلت هذه الأخيرة من ألمانيا ودخلت الخدمة في الاسطول في 2016 تحدث رئيس الوزراء «بنيامين نتانياهو» عن القدرات التدميرية التي تستطيع هذه الغواصات إنزالها بأعداء اسرائيل إذا ما حاولوا ايذاءها، لأنك لن تخيف أعداءك ما لم تعطهم تصوراً عما أنت قادر عليه.
لقد وضعت الولايات المتحدة نفسها في وضع مزرٍ.
إن تشأ اسرائيل احاطة ترسانتها النووية بالغموض تحاشياً للرقابة، سواء لأسباب تتعلق بأمنها القومي او لدواعٍ بيروقراطية داخلية، فهذا شأن يخصها، ولكن تقبل الولايات المتحدة او رفضها لكمامة تملي عليها ما تقول فإنه الآن شأن بايدن.
في زمن مضى كان الكشف عن قدرات اسرائيل النووية سيحدث ردة فعل عكسية خطرة من جانب السوفييت، ربما تبلغ حد مساعدة الدول العربية في برامج للتسلح النووي، ولكن هذا الزمن ولى.
الولايات المتحدة اليوم منشغلة بمحاولة كف يد إيران عن تطوير وسائل تمكنها من صنع اسلحة نووية، وواشنطن لن تمتلك المصداقية او الفعالية لمناقشة هذا الشأن من دون الاعتراف أولاً بأن اسرائيل ايضاً تملك أسلحة
نووية.
الخطاب الذي تتوقع اسرائيل من كل رئيس أميركي جديد ان يوقعه يتحدث من منطلق حماية الولايات المتحدة لاسرائيل ما دامت تواجه «تهديدات لوجودها»، وهذا يطرح تساؤلاً بشأن ما إذا كانت اسرائيل لا تزال عرضة لأي من تلك التهديدات، لاسيما عقب اتفاقيات ابراهام 2020 وغيرها من الاتفاقيات مع أكبر الدول
العربية.
لقد حان الوقت لأن تغير واشنطن تفكيرها، فاسرائيل اليوم قوة نووية مسلحة، وهي أقوى من جيرانها.
إن مصداقية الولايات المتحدة اليوم وقدرتها على درء مزيد من الانتشار النووي في المنطقة أهم من استرضاء اسرائيل في اصطناع لغز يضر بمصالح الولايات المتحدة.
* عن مجلة «فورن بولسي»