إذا كان الشاعر الانكليزي «ت س إليوت» يرى بأنَّ الثقافة تعدُّ تجسيداً للفكر الديني، وآرنولد يرى بأنها أكثر شموليَّة من الدين، نظراً لقدرتها على استيعاب الآراء والأهواء والمفرادت، بعكس الدين الذي ينطوي على محددات معينة، ويمتد لمناطق بعينها، لا يمكن لمن تجاوز تلك المناطق، أنْ يشمل بالحماية الدينيَّة، فإنَّ الحضارة العراقيَّة، تكاد تعطي أنموذجاً فريداً، يجسد العلاقة بين الثقافة والدين.
الثقافة بوصفها ذلك المركب الذي يضم العادات والتقاليد والقيم وكل البنى الفوقية التي تمثل رأس مال كل فرد ومدينة وبلد، يحتل الدين فيها مساحة واسعة، ويشغل حيزاً مهماً في تفكير الأفراد، بوصفه موجهاً ومحفّزاً على النماء الثقافي والفكري.. ولعلَّ التراث والآثار والحضارة الاسلامية والتاريخ الإسلامي، وما بقي منه من شواهد كثيرة وحواضر إسلامية، لا زال صداها يتردد بين جدران الحاضر، تمثل عماد الحضارة الإسلاميَّة، والمنبع الرئيس الذي ينهل منه معتنقو الدين ومؤمنوه.
ومن بين تلك النوادر التاريخية التي شكّلت لحظة انعطافة مهمة في الفكر والتاريخ الاسلامي، وأسهمت في التأسيس لحاضرة ثقافية، استطاعت أن تكون امتدادا لذلك الإرث التاريخي العريق، هو مدينة القاسم، التي تقع جنوب بابل، ذات التاريخ العبق والحاضر العطر.. مدينة القاسم، التي تملك رأس مال ثقافي كبيراً، ورصيناً، يوازي ما تملكه باقي المدن الإسلامية التي كانت مسرحاً لأحداث تاريخيَّة مهمة، صنعت التاريخ والحضارة الإسلاميَّة. فهي ضمّت جسد الإمام القاسم ابن الامام الرضا عليه السلام، صاحب القصّة المعروفة. مدينة القاسم التي كانت جزءاً لا يتجرأ من حضارة عريقة، كانت قائمة في بابل، والتي كانت تسمى بـ «سوراء» تلك المدينة التي كانت شاهدة على حضارتين عظيمتين، هما الحضارة البابليَّة والحضارة الإسلامية.
ومن هذا المنطلق، سعى الباحث د. عبد العظيم الجوذري، ابن المدينة إلى إنجاز موسوعة قيّمة، توثق البعد الثقافي للمدينة، عبر كتابه «موسوعة المؤلفين والكتاب والمبدعين في مدينة القاسم» تلك الموسوعة التي آمن من خلالها الجوذري بأنَّ الثقافة لا يمكن أنْ تقوم إلا عبر أبنائها المبدعين الذين أسهموا في إثراء الحركة الإبداعيَّة والثقافيَّة والأكاديميَّة في مختلف الفروع والمجالات العلميَّة والإنسانيَّة.. يتكون الجزء الأول من الموسوعة من 500 صفحة من القطع الطويل والصادر عن دار الفرات للطباعة والنشر في بابل عام 2018 يضم عدداً كبيراً من أبناء مدينة القاسم ومن مختلف الاختصاصات، فهناك أدباء وشعراء وقضاة وأطباء ومهندسون، لهم بصمتهم الواضحة والمعروفة في الأوساط الثقافية والأكاديمية، داخل المحافظة وخارجها. بدأت الموسوعة، بذكر قصة مجيء الإمام القاسم إلى المكان الذي دفن فيه والذي كان يسمى قديما «باخمرا» نظراً لاشتغال أهله بخمار الطين أي تخمير الطين وخلطه بالتبن ليكون في ما بعد مادة للبناء.
وبعد انتهائه من سرد موجز للقصة، بدأ بذكر أسماء المؤلفين والمبدعين والكتاب الذين سكنوا المدينة ومن الذين مروا عليها أو سكنوا فيها لمدة وجيزة. وذكر المؤلف في مقدمة الموسوعة أنه اعتمد منهجاً سار عليه صاحب كتاب : تاريخ دمشق» ابن عساكر و صاحب «تاريخ بغداد» الخطيب البغدادي وأخيراً صاحب حلة بابل المرحوم د. صباح نوري المرزوك. وتمثل ذلك المنهج بالبدء بالأحرف الألف بائية عبر ذكر الأسماء بشكل تسلسلي.. ومن خلال الاطلاع على تلك الأسماء، وجدنا أن الجوذري، لم يتجاوز منطقة من مناطق القاسم وحيا ولا فرعا، بل امتدت تغطيته للأسماء كلها، ممن أسهم بشكلٍ أو بآخر في إغناء المشهد الإبداعي القاسمي والبابلي والعراقي بنتاجه الأدبي والثقافي والاداري المميز.
الجوذري، كان مؤمناً بأنَّ المبدع ركيزة من ركائز أية مدينة، وتوثيق وجوده، وذكره في منجز ثقافي، أمر مهم، بغية إيصال رسالة إلى ذلك المبدع وإلى المتلقي بصورة عامة بأنه كائن ومهم، وهو ثروة من ثروات المدينة، وقدر تعلق الأمر بالجانب الثقافي والتوثيقي فإنَّ الكاتب والمثقف المختص بالتوثيق، موجود ومدرك لأهمية ذلك المبدع ودوره في الحياة العامة داخل المدينة. فحين يقرأ المبدع اسمه ضمن مدونة ستبقى ذاكرة وتاريخاً للمدينة، فإنَّه سيكون مدعاة للفخر والشعور بالمسؤولية والسعي نحو ديمومة الفعل الإبداعي لديه، خصوصا أنَّ الجوذري، أقر بأنَّ هنالك جزءاً ثانياً يعكف على كتابته، ليكون مكملاً للجزء الأول، فهو إنما يعطي حافزاً للآخرين من الأجيال الجديدة للإبداع والسعي نحو ترك بصمة إبداعيَّة، سواء بالكتابة أو التأليف أو البروز في ميدان العمل الإداري، من أجل رفع راية المدينة عالياً في سماء البلد.
لقد أراد الجوذري القول إنَّ مدينة القاسم، هي وريثة لتلك الحضارة التي كانت ذات يوم شاخصة فيها. ولا حضارة بلا مبدعين.