علي حسن الفواز
تظل كتابة التاريخ واحدة من أكثر حلقات المعرفة تأثيرا في الانماط الثقافيةوالعلميةالأخرى، ليس لأنها تتعامل مع الاحداث والمعلومات والسير، بل لأنها الفاعل الجوهري في التعرّف على الحقائق، وعلى مظان الأمور، فضلا عن أهميتها في اخضاع التاريخ ذاته للفحص والنقد والمراجعة.
كمال مظهر احمد من أكثر مؤرخينا إهتماما بفحص التاريخ، وبقراءته على وفق المناهج العلمية، إذ وجد نفسه أمام مسؤولية من يكشف للقراء عالما فيه من الخفايا والاسرار مايحتاج الى الفحص العلمي، على مستوى التدوين والسرد، أو على مستوى علاقة التاريخ بالسلطة والمجتمع، وأحسب أنه أدرك هذا المعطى في كتبه العديدة، إذ وجد في المنهج الواقعي التحليلي مجالا للمعاينة، وللاقتراب من فاعلية ما يتطلبه المنهج من مقربات وأدوات يقف فيها واعيا لمسؤولياته إزاء طروحات الاستشراق واشكالاته، فحين كتب " ثورة العشرين في الاستشراق السوفيتي" كان واقعيا بالمعنى الأكثر تماسا مع اشكاليات الثورة، ومع طابعها الانساني والطبقي، ومع طبيعة القوى الفاعلة فيها، وبقدر ما وضعه الاجراء المنهجي أمام اسئلة الواقعية الاشتراكية، فإنه ادرك بالمقابل خصوصية الحدث العراقي، وأهمية ربط هذه الواقعية بحياة المجتمع، وبالتاريخ، وبالبيئة العشائرية والطابع الديني والطابع الوطني العمومي للثورة.
وحتى في كتبه الأخرى " دور الشعب الكوردي في ثورة العشرين، النهضة، ميكافيلليوالميكافيللية، اضواء على قضايا دولية" وغيرها كان يؤدي مسؤولية العالم الناقد، والمؤرخ الباحث، والمحقق العدل، وهو ما اعطاه حضورة مميزا على مستوى الدرس الاكاديمي في دراسة التاريخ وعلم الاجتماع، أو على مستوى فحص ماخفي في ذلك التاريخ من أنساق مضمرة ومن صراعات كان لها الدور البارز في تشكيل ملامح المجتمع العراقي، لاسيما في تنوعه القومي والثقافي والطائفي، وأحسب أن ما كتبه عن تاريخ ثورة العشرين العراقية كان هو الفضاء الذي تجسد فيه هذا الوعي الشمولي للتفاعل المكوناتي العراقي، ولأهميته في صياغة العقد الاجتماعي والعقد الثوري والتعايش الراسخ في المكان وفي الزمان.
رحيل الدكتور كمال مظهر احمد خسارة كبيرة للعراق ولعلم التاريخ، لكن أثره ودراسه سيظلان علامتان لوجوده المعرفي والعلمي في اوساطنا وهي تنهل من سيرته وعلمه الكثير الذي يعين الباحثين والدارسين على اهمية الارتقاء بمسؤولية الكتابة، وعلى ربط التاريخ بالمعرفة والنقد، والمنهج،وبالاتجاه الذي تتعزز فيه علمية البحث وضرورته في التدوين وفي معرفة الاحداث في سيرها وفي تحولها..