شكسبير تحت الإغلاق: هل كتبَ {الملك لير} أثناء حَجْر الطاعون؟
منصة
2021/03/20
+A
-A
أندرو ديكسون
ترجمة: جمال جمعة
بينما نحن عالقون في عزلة ذاتية، أو نعمل من المنازل، نشاهد مقاطع فيديوهات تيك توك ونقوم بتحديث المدونات المباشرة، كان ثمة ميم* منتشر هنا وهناك يدعي أن شكسبير استغل الحجر الصحي أثناء الطاعون لكتابة “الملك لير”. لقد استفاد الشاعر، على ما يقال، من الإغلاق المطول لمسرح غلوب* ليصل إلى القمة في سلـّم كتاباته، حيث شرع بكتابة “ماكبث” و”أنطوني وكليوباترا” كتمهيد. إذا لم يصبك الذعر بما فيه الكفاية بشأن ضآلة ما أنجزته مؤخرًا، فها هنا بالتأكيد طريقة للشعور بالأسوأ. لماذا لا تنفض أخيراً الغبار عن تلك الرواية أو السيناريو الذي كنت تتوق إلى كتابته؟ هذا ما كان سيفعله الشاعر الملحمي بالتأكيد.
ومع ذلك، هل هذا صحيح حقًا، ذلك الجزء المتعلق بشكسبير؟ حسنًا، ربما. بالتأكيد من العدل أن نقول إنه، مثل جميع الإليزابيثيين، تأثرت حياة الكاتب المسرحي المهنيّة بالطاعون الدبلي بطرق يصعب تصورها الآن، حتى ونحن في خضم جائحة الفيروس التاجي. عندما كان رضيعًا، كان محظوظًا لأنه نجا من المرض: دُمِّرت بلدة ستراتفورد بتفشٍّ هائل في صيف عام 1564، بعد بضعة أشهر من ولادته، وتوفي ما يصل إلى ربع سكان البلدة. أثناء نشأته، كان شكسبير قد سمع قصصًا لا نهاية لها عن هذا الحدث الكارثي وركع في الكنيسة لإحياء ذكرى سكان البلدة الذين فُقدوا. والده، جون، شارك عن كثب في جهود الإغاثة وحضر اجتماعًا لمساعدة أفقر سكان ستراتفورد، والذي تم عقده في الهواء الطلق بسبب مخاطر العدوى.
عندما أصبح شكسبير ممثلاً محترفًا، ومن ثم كاتبًا مسرحيًا ومساهمًا في فرقة بلندن، شكل الطاعون تهديدًا مهنيًا ووجوديًا على حدّ سواء. لم يكن لدى الأطباء الإليزابيثيين أدنى فكرة عن انتقال المرض عن طريق براغيث الفئران، وفي اللحظة التي احتدم فيها المرض (غالبًا خلال أشهر الربيع أو الصيف، وهي مواسم الذروة للمسارح) سارعت السلطات إلى حظر التجمعات الجماهيرية. وبالنظر إلى أن السلطات كانت بالطبع ترتاب في المسرح على أي حال، باعتباره محرّضًا على الفاحشة وشهوة الملابس المغايرة*، والله أعلم ماذا أيضًا، فقد كانت دور المسرح دائمًا أول من يغلق. (بيوت الدعارة وحلبات صيد الدببة كذلك، التي اعتمد عليها بعض أصحاب المسارح للحصول على دخل). كما صرّح أحد الوعّاظ في ذلك الوقت بشكل قاطع: “إن سبب الطواعين هو الخطيئة، وسبب الخطيئة هو المسرحيات”. بين عامي 1603 ــ 1613، عندما كانت قدرات شكسبير ككاتب في أوجها، تم إغلاق مسرح غلوب ومسارح لندن الأخرى لمدة إجمالية مثيرة للدهشة بلغت 78 شهرًا، أي أكثر من 60 ٪ من الوقت.
كانت تلك فترة مظلمة للمسارح بأعمق معانيها. تم إجبار الممثلين على القيام بأعمال أخرى، وبطبيعة الحال، مات الكثيرون منهم (الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 10 سنوات ومنتصف الثلاثينيات كانوا معرضين للإصابة بشكل خاص) انفصلت الفرق أو اضطرت للقيام بجولات في المقاطعات على أمل ألا تكون أخبار الطاعون قد سبقتهم إلى هناك. كما أشار واحد على الأقل من كتّاب سيرة شكسبير، فإن ثمة مفارقة غريبة في عمليات الإغلاق: كان رواد المسرح الإليزابيثيون يحبون قضم البُندق، والذي ربما ساعد في صد البراغيث التي تحمل الطاعون.
إذن ماذا عن نظرية لير؟ إنها ليست مستحيلة بأي حال من الأحوال: نحن نعلم أن المسرحية تم تمثيلها أمام الملك جيمس الأول في يوم الصناديق* “اليوم الثاني من أعياد الميلاد” عام 1606، وهو أول أداء مدوَّن، وهو رهان مقبول بأنها قد كُتبت في تلك السنة أو السنة التي قبلها. كما يشير المؤرخ المسرحي جيمس شابيرو، كانت ثمة طاعون عظيم في لندن في صيف 1606، مما أدى إلى إغلاق مسرح غلوب وجميع مسارح لندن الأخرى. لم يكن تفشي المرض جسيماً مثلما حدث قبل ثلاث سنوات وأدى إلى قتل أكثر من عُشر سكان لندن، لكنه استعر خلال الصيف وأوائل الخريف، وكانت أبرشية مدينة لندن، حيث عاش شكسبير، واحدة من المتضررين. في الواقع، تأثر منزل الكاتب المسرحي بالذات: أحد أولئك الذين ماتوا في ذلك العام كانت صاحبة المنزل، ماري ماونتجوي.
عندما تعرف هذا، من الصعب ألاّ تسمع أصداء لير، التي يمكن القول إنها أحلك تراجيديا كتبها شكسبير. لا بد أن الحالة المزاجية في المدينة كانت مروّعة (شوارع مهجورة ودكاكين مغلقة، كلاب تجري بحرّية، ومقدّمي الرعاية يحملون عِصيًّا طولها ثلاثة أقدام مطلية باللون الأحمر لكي يُبقوا الجميع على مسافة منهم، وأجراس الكنيسة تقرع للجنازات بلا انقطاع) ويبدو أن شيئًا مشابهًا قد حدث في عالم المسرحية المطهَّر.
النص مشبّع بصور الموت، والفوضى، والعدمية، واليأس، والجميع يشعر كما يبدو بالقشعريرة. وكما يلاحظ “غلوستر” بتجهّم: “الحب يفتر، والأصدقاء يتمردون، والإخوة ينقسمون; والخيانة في القصور، والرابط ينفصم بين الولد ووالده ... لقد انقضى أفضل ما في زماننا”*. نحن لا نعرف على وجه اليقين إن كان “لير” نصًا طاعونيًّا، فهو بعيد كل البعد عن التصريح الجليّ الذي في مسرحية بن جونسون “الخيميائي”، أو في الكتيّب الصحفي المعنون بشكل ساخر “السنة الرائعة” لتوماس ديكر، والذي يروي الأحداث المروعة لعام 1603، لكنه بالتأكيد يبدو كذلك.
إنها ليست مسرحية شكسبير الوحيدة التي تشير إلى الوباء أو الطاعون الدبلي، إنها حقيقة حاضرة دومًا بالنسبة للكاتب المسرحي ومعاصريه. على الرغم من عدم وجود إشارات مباشرة عديدة إلى الطاعون الدبلي في نصوصه، إلا أنه يلقي بظلاله على حافة الإطار، ويُشعر به أكثر مما يُرى. في بعض الأحيان يكون أداة للحبكة، كما هو الحال في “روميو وجولييت”، حيث يصيب المرض الرسول الذي أرسله الراهب لورانس ويجبره على دخول الحجر الصحي. وهذا يعني أن الرسالة التي تحمل أخبارًا بأن جولييت زيّفت موتها لن تصل إلى روميو. في موضع سابق من المسرحية، ربما يكون سطر “مركوشيو” في الفصل الثالث: “فليحلّ الطاعون على منزليكما!”، قد أثار ضحكة مكتومة قاتمة، حتى وأن كان يشير على الأرجح إلى مرض مميت آخر في تلك الفترة، الجدري.
ولكن في المسرحيات التي كُتبت بعد ذلك الاندلاع المروع عام 1603، حينما توجّب حتى تأجيل تتويج جيمس الأول، فإن مجازات الأوبئة قد أصابت أعمال شكسبير بالعدوى كما يبدو. مسرحية “تيمون الأثيني” القليلة الأداء تبلغ ذروتها برجل يرسل نفسه إلى المنفى، حيث كلمة “الطاعون” بالكاد تفارق شفتيه: “أيتها الطواعين ... اسكبي سيل حُمّاكِ القوية والمفسدة / على الأثينيين!”... “فلتكن مكلّلة بالطواعين”... “أعيدوا لهم الطاعون / لو أمكنني الإمساك به من أجلهم”. مسرحية “الصاع بالصاع”، والتي هي أقرب ما تكون في وصف شكسبير للندن في عصره على الإطلاق، تبرز سمات المواخير والحانات التي كانت السلطات الأوتوقراطية تغلقها بغتة، كما كانت الحال في كثير من الأحيان.
تحتوي “ماكبث”، التي كتبت على الأرجح أثناء وباء 1606، على خطبة قصيرة معقّدة كان من شأنها أن تبث الخوف في نفوس العديد من المتفرجين: “ناقوس الموتى / يكاد لا يسأل أحدٌ لمن يقرع، وحياة الطيبين / تنقضي قبل الأزاهير التي في قبعاتهم / إذ هم يموتون قبل أن يأخذهم المرض”. وكما يلاحظ شابيرو: “على الرغم من أن طوله لا يزيد عن أربعة أسطر، فلربما لا يوجد وصف أفضل للرعب والضيق اللذين يحملهما الطاعون معه”. كما يرد في “الملك لير” بصراحة أشدّ وحشية حتى. يصرخ كينت، الذراع اليمنى للملك لير، على الخادم أزوالد: “لفَّ الطاعون وجهك المصروع!”، ويصف لير “الطواعين المعلّقة في الهواء المتأرجح”، مشيرًا إلى النظرية الشائعة القائلة بأن المرض يمكن أن ينتشر عن طريق الانتقال في الهواء. وفي إحدى تبجحاته العديدة، يصف الملك ابنته جونريل بأنها “قرحة الطاعون، ورمٌ ناتئ في دمي / الملوَّث”، وهي إشارة معيّنة خبيثة إلى تضخم الغدد الليمفاوية، أحد أعراض الطاعون الدَّبلي.
أما إذا كان الطاعون أمرًا جيدًا لشكسبير شخصيًا فهذا أمر مشكوك فيه. لسبب واحد، فبصفته مساهمًا في مسرحين اثنين وفرقة واحدة، سيكون قَلِقًا مثل أيّ منتِج في “الوِست إند”* في عام 2020 بشأن إغلاق المسارح، والتأثير على الربح الإجمالي، وفيما إذا كان هناك أي معنى في قيامه بإنتاج نصوص جديدة إذا لم يستطع أحد تقديمها على المسرح. من ناحية أخرى، نعلم أنه عمل بشكل وثيق مع ممثلين، هم أكثر المتعاونين ثقة، وربما حتى كتب مسرحياته في مبنى المسرح؛ وكممثل وكاتب ومدير مشغول اعتاد القيام بـ 17 شيئًا في وقت واحد، لم تكن العزلة هي النمط المفضل لديه، بالقدر الذي يمكننا قوله. كما لا يبدو الأمر كما لو كانت أوقات الطاعون مريحة، خاصة إذا كنت محاصرًا في المدينة. كان منزل شكسبير الواقع في شارع سيلفر ستريت يواجه كنيسة تقرع نواقيسها باستمرار لضحايا الطاعون: لا مفرّ هناك.
من الجدير ملاحظة نقطة أخرى أيضًا. أثناء اندلاع الطاعون الرهيب السابق في يونيو 1592، عندما أغلقت المسارح لما يقرب من ستة أشهر، تحوّل شكسبير إلى الشعر: قصيدتاه السرديتان الطويلتان “فينوس وأدونيس” و”اغتصاب لوكريس” تم تأليفهما خلال تلك الفترة، ربما لأن كاتبهما الشاب كان يائسا من الحصول على مصدر دخل أكثر موثوقية. إذا بقيت دور العرض مغلقة وانطلقت مسيرته المهنية كشاعر بسبب الجائحة، فلربما لم يكن هناك “لير”، أو “روميو وجولييت”، و”هاملت”، و”ماكبث”، و”أنطوني وكليوباترا”، أو أيّ من أعمال شكسبير الكبرى.
The Guardian
هوامش:
* مسرح غلوب: مسرح شهير في لندن، أنشئ في عام 1598، وأقيم عليه العرض الأول لأغلب مسرحيات شيكسبير. هدمه “البيوريتان” أو المطهرون، وهم جماعة ظهرت في إنجلترا ضد الفن والمسرح عام 1644، عندما أغلقت المسارح في انجلترا.
* الميم: مصطلح يقصد به فكرة أو تصرف أو أسلوب والذي ينتشر من شخص لآخر داخل ثقافة ما غالبًا بهدف نقل ظاهرة معينة أو معنى متمثلاً في الميم. يعمل الميم كوحدة لحمل الأفكار الثقافية أو الرموز أو الممارسات، والذي يمكن أن ينتقل من عقل إلى آخر من خلال الكتابة أو الحديث أو الإيماءات أو الطقوس أو أية ظاهرة أخرى قابلة للتقليد تربط بينها صورة عامة.
* شهوة الملابس المغايرة: ظاهرة منتشرة منذ القرون الماضية، وتعني أن يقوم الرجل أو المرأة بارتداء ملابس الجنس الآخر سواء كانت ملابس داخلية أو فساتين أو مجوهرات. المصطلح ليس له علاقة بالميول الجنسية أو التحول الجنسي.
* يوم الصناديق: يوم عطلة رسمية يحتفل به في المملكة المتحدة وكل الدول الناطقة بالإنجليزية باستثناء الولايات المتحدة ومعظم دول الكومنولث، في 26 ديسمبر من كل عام غداة عيد الميلاد، ويعرف أيضاً بعيد القديس ستيفن. ظهر في إنجلترا خلال العصور الوسطى. يعتبر العيد في إنجلترا واحداً من الأعياد المعترف بها منذ عام 1871. هناك تباين في النظريات حول أصل التسمية، وأكثرها شيوعاً هو أن التسمية جاءت لأنه في ذلك الزمن كانت الكنائس تضع صناديق في الخارج لجمع الهدايا للمحتاجين. بينما تقول فرضية أخرى مشابهة إن التسمية جاءت لأن أصحاب المنازل كانوا يعطون الخدم صناديق تحوي نقودًا وهدايا وأحياناً طعامًا لأخذها لأسرهم يوم السادس والعشرين من كانون الأول (غداة عيد الميلاد).
* الوست إند West End: الجزء الغربي من وسط لندن ويضم أهم مناطق التسويق والترفيه.
* حوارات (الملك لير) و (ماكبث) مقتبسة من ترجمة جبرا ابراهيم جبرا للمسرحيتين.