{متوسطة الحلة للبنين}.. سياحة تاريخيَّة

منصة 2021/03/27
...

  د. عبد الرضا عوض
 
الكتابة في التاريخ أمرٌ شاق لا سيما البحث الميداني لموضوع لم يطرق سابقاً ولم يؤرخ له في ثنايا الكتب، فعليه أن يرسم الأسلوب الذي يمكن توظيفه في صياغة الأحداث والإحاطة بها ليقدم لنا تجربة إبداعيَّة تعيد إنتاج حياة لشخصيات شغلت حيزها المؤثر بما قدمته من إبداع يستفز الذاكرة فيترك بصمته المؤثرة بفعله وتفاعله مع القارئ بقصد الإفادة المعرفيَّة وتحقيق المتعة المنبثقة من ثنايا التجربة التي تعتمد البناء الفني وإضفاء عنصر التشويق وجودة السرد ودقته.
«متوسطة الحلة للبنين» سياحة تاريخيَّة استنهض بها الأديب الفنان بشار طاقته وسطر لنا سفراً رائعاً من ذكريات عصفت بحياة الكثير ممن انتظم للدراسة بهذا الصرح المعرفي متداخلاً مع مفردات وذكريات من مدينته الحلة الفيحاء التي أنجبته ملتقطاً شذرات من أحداث تلك الأيام الخوالي لينثرها علينا، وفي هذا الحين تختلجني الفرحة مباركاً لصديقنا الدكتور بشار على جهده في سرده لهذا السفر المنفرد بأسلوبه التوثيقي.
صدر عن دار الفرات للثقافة والإعلام كتاب (متوسطة الحِلّة للبنين.. تأريخٌ وأعلام) وهو من تأليف الدكتور بشار عليوي، يقع الكتاب في (250) صفحة من الحجم الوزيري وقد زين صفحاته بالعديد من الصور لأعلام درسوا وتخرجوا في هذه المتوسطة ومن حسن الحظ أنْ أكون أنا بين ما يزيد على (60) علماً تلك القامات السامقة التي نالت مراتب عليا في الدولة والمجتمع.
لقد انفرد الدكتور بشار عليوي في منجزه هذا وهو يؤرخ لهذه المدرسة في أول كتاب من نوعهِ متتبعاً تأريخ مدرسة متوسطة الحِلّة للبنين التي تأسست وفق ما عثر عليه بين أكداس الوثائق عام 1925م خلاف المشهور والمعلن بأنها أُسست سنة 1927م وهي بلا شك حازتْ التميز والفرادة مقارنةً بنظيراتها من بعدها, وتمكن الكاتب من لملمة أطراف الموضوع باتباعه منهجيَّة خاصة لتأليف هذا الكتاب انتشل بعضاً منها من وثائق قديمة، وحصل على بعض منها بمقابلات شخصية للذين انتظموا في صفوف هذه المدرسة.
والدكتور بشار عُرف عنه مثابرته وإصراره على الوصول للهدف المرسوم في مخيلته، وبهذا المنجز دخل بشار حلبة التدوين التاريخي، فضلاً عن تخصصه بالفنون المسرحيَّة وهذه حالة قل أنْ تجدها بين المدونين، لقد توغل في بطون الكتب وجايل كبار الشخصيات الأدبيَّة والفنيَّة فجاءت كتاباته مغلفة بوجهات نظر إنسانية من جهة، ومكملاً لإبداع مهنته من جهة ثانية، فقد درس المسرح ومارسه بحياته العملية، وتابع نشاطاته الفكرية متابعة متحفظة بعد رحلة طويلة في أخاديد طبقات المجتمع من كرد وعرب، فعمله الوظيفي يفرض عليه شحاً وتحفظاً في الإنتاج، فهو يتمتع بمتابعة فذّة بصبر واناة.
هذا المنجز «متوسطة الحلة للبنين « كتاب مميز لأنه تعامل مع البنية الأساسية للمجتمع وهو يسلط الضوء على بعض المراحل نتيجة التحولات الفكرية والتطورات العلمية والانقلابات السياسية، فقد آثر أنْ يتخذ طريقاً مغايراً من خلال تماهي الطرح بالأسئلة وهذا ما لمسناه في منجزه هذا مستخدماً ومتكئاً على كدسٍ من وثائق ارشيفية ليسلط الضوء وينير للقارئ أطوار الحقبة الذهبيَّة لهذه المدرسة.
ومن المؤكد أنه استثمر خلفيته فأنتج هذه السبيكة الأدبيَّة التي تقاربت مع الذاكرة والتنوع الواقعي والتجانس الثقافي في صناعتها قد لا نجد لها مثالاً واضحاً هذه الأيام.
هذه المقدمة دعوة لقراءة الكتاب لاستيضاح حقيقة شخصية رجل القضاء حينما يتحول الى أديب ناقد، وهو يشكل أنموذجاً أدبياً وثقافياً وإبداعياً ومدنياً بقوة الوعي الذي يسكنه، ليصدح بأعلى صوته ويقول كلمة سواء لشعبه، فبورك له ولنا هذا العطاء المائز.