«فايروس».. واقعٌ مُفتَرَض أَمْ واقعٌ مُعاش؟

منصة 2021/03/27
...

  رضا المحمداوي
 
لا بُد من الإقرار أولا بأن واقع المجتمع العراقي قد أصبح معقداً بتكوينهِ الداخلي، ومتشابكاً بخيوطهِ المكونة لطبيعتهِ الاجتماعيَّة بعد كل المنعطفات الكبيرة التي مرَّ بها وما تراكم فيه من أزمات ومشكلات مستفحلة بحيث أصبحت عملية طرح مظاهر هذا المجتمع وأزماته ومشكلاته ومعالجتها درامياً مهمة صعبة وتشوبها الكثير من المحاذير والتحفظات، وفي الحصيلة الأخيرة نجد أن الواقع الذي تمَّ إنتاجه وصياغته داخل بناء العمل الدرامي والذي يفترض به أن يكون انعكاساً وتجسيداً للواقع الحقيقي، قد أصبح هو الآخر واقعاً إشكالياً وملتبساً يثير الأسئلة وعلامات الاستفهام المتعددة عن مدى علاقة هذا الواقع الدرامي المفترض بـ {واقع الحال} المعاش وأيهما هو الأقرب إلى الحقيقة؟.
ومثل هذا المُقترب النقدي سيكون ماثلاً أمامنا ونحن نحاول معاينة مسلسل (فايروس) لمؤلفهِ: أحمد هاتف، ومخرجهِ: جمال عبد جاسم والذي أنتجته وعرضته قناة (utv) بأربع وعشرين حلقة، وبدافع تساؤل كبير يبحث عمَّا هو مُضمَر أو مسكوت عنه أو يتوجّبُ الكشف عنه أو فضحه من حركة المجتمع ومتغيراته الفكريَّة.
وشأنهُ شأن بعض أعمالهِ الدراميَّة الأخرى أرادَ أحمد هاتف لـ{فايروس} أن يكون مسلسلاً ذا طابع شبابي طاغِ مُتخذّاً من (الحب) موضوعاً مركزياً هيمَنَ بشكل كامل على مجريات المسلسل، وقد اتّخذ من الوسط الجامعي في جامعة أهليَّة، بيئة حاضنة لتلك الموضوعة بما يحفل فيه ذلك الوسط من (أولاد وبنات) في مقتبل العمر تدفعهم العاطفة الممزوجة ببقايا مراهقة قلقة واندفاع جسدي محموم يتجسّدُ لنا بالتقلب العاطفي والمزاج المتغير مع ردود الفعل المتشنجة وحالات المشاجرة والمشادات الكلاميَّة واستخدام العنف الجسدي داخل الحرم الجامعي الذي ظهر لنا غافلاً متجاهلاً عمَّا يفعـــــــل أولئك الأولاد والبنات في علاقاتهــــــم العاطفيَّة.
 
دوَّامة علاقات الحب
الهيكل العام للمسلسل تم بناؤه بشكل رئيس على حكايات وعلاقات حبٍ متداخلة ومتعددة بين مجموعة من الشباب والبنات وذات طبيعة متغيرة الأضلاع ومتنافرة الأقطاب وَبَدَتْ لنا في تبدّلها وتنقلها أشبه بدوّامةٍ من العلاقلات المتشابكة والمتداخلة الخطوط والشخصيات وتجسدَّتْ لنا عاطفة الحب التي تجمعهم وتفرقهم وكأنها لعبة مراهقين عابثين يشاكسون بعضهم ويندفعون وراء أهوائهم وأمزجتهم المتقلبة من دون استقرار مع غيابٍ واضحٍ للجوانب أو الجذور الأسريَّة والارتباطات الاجتماعية العامة لتلك الشخصيات الطائشة، والأهم من ذلك كله غياب واضح للعاطفة العميقة والإحساس الإنساني المُرهف وعدم وجود الأجواء الرومانسيَّة المؤثرة داخل علاقات الحب المتعددة. 
المحور الأوّل لحكايات الحب المتداخلة تمثّل لنا بـ(لؤي) (زيد الملاك) وعلاقته المتذبذبة بـ(هندرين) (أساور عزة) من جهة و(إسراء) (شروق الحسن) من جهة أخرى، وفي وقتٍ لاحقٍ يضم (لؤي) زميلته (سمراء) الى الاثنتين السابقتين ليتنقل بقلبه بين الحبيبات الثلاث، ولقد كان هذا المحور حافلاً بالأحداث والتبدّلات والمتغيرات وبَرَزَتْ فيه شخصية (هندرين) على نحوٍ فاعلٍ، لكن من دون أنْ ينتهي إلى علاقة حب ناضجة ومستقرة.
وعن طريق (نورس) (رغد خاتون) وعلاقة الحب السابقة التي كانت تربطها بالشخصية الرئيسة في المسلسل (دريد) (أحمد نسيم) بجميع تعقيداتها ومحاولات الابتزاز الالكتروني التي يقوم بها الأخير ومن ثم ارتباطها بخطيبها (علاء) (أمير إحسان)، ندخل الى المحور الثاني من حكايات الحب والذي ستضاف إليه (عبير) (رضاب أحمد).
والمحور الثالث كان قد تجسَّدَ لنا بعلاقة الحب بين الشاب المسيحي (مارتن) (أحمد المطيري) و(باران) (سهير صلاح).
وبدرجة أقل وفي الحلقات الأخيرة تشكَّلَ (بين الجد والهزل) المحور الرابع بين (هنادي) (زمن الربيعي) وزميلها (الممثل: كاظم عباس).
وإزاء تلك المحاور المتعددة وفي محور رئيس للمسلسل كانت علاقة الحب بين الأستاذ الجامعي الدكتور (وارث) (محمد هاشم) والطالبة (رسل) (إسراء العبيدي) وبسبب هذه العلاقة سيضطر (وارث) إلى طلاق زوجته (رحاب) (أسيل عادل) وترك أولاده ليتزوج من طالبته الشابة.
وقد بدتْ العلاقة بين (وارث) و(رسل) أكثر اتزاناً ورصانةً في بنائها وأكثر إقناعاً وتأثيراً وقد أخذ خطها الدرامي بالتنامي السلس وقد أوصلها المسلسل ناضجة ومؤثرة رغم أنها بدأتْ وكأنها لعبة أو نزوة عابرة في تفكير (رسل) الشابة المندفعة وراء أهوائها.
 
السقف المكاني
هيمنَ المكان الرئيس (الجامعة) على الأحداث والشخصيات وأصبح سقفاً ضاغطاً وثقلاً كبيراً على البنية الدراميَّة وعلى شبكة علاقات الحب المتعددة والمتداخلة في ما بينها حتى أصبح المسلسل عبارة عن دائرة دراميَّة مغلقة على نفسها ويدور في حلقة المشاهد المعادة والمُكرَّرة التي تشهدها حوارات الطاولات المستديرة في كافتيريا الجامعة والمطاعم والكازينوهات مع طابع متسم بالرتابة، وقد تجاوز المسلسل منتصف حلقاته وهو مُستمرٌ في دورانهِ داخل تلك الدوَّامة.
وداخل هذه المشاهد والحوارات أتوقفُ عند أسلوب وطريقة صياغة هذه الحوارت وما حفلتْ به من مفردات وسباب وشتائم وصفات والفاظ أقل ما يمكن أنْ يقال عنها إنَّها سوقيَّة أو بذيئة يتقاذفها مجموعة شباب في ما بينهم، وقد يبرّرُ المؤلف ذلك الحوار بأنه لغة الحوار وأسلوب التخاطب السائد بين الشباب في الوقت الراهن، لكنْ ما يُعيبُ صياغة هذه الحوارات أنها جاءتْ بصورة عامة وشَمَلتْ جميع الشباب بلغتها ومفرداتها، ولو تميّزتْ إحدى الشخصيات أو بعضها بهذه اللغة والمفردات لكان مبرراً ومقنعاً ورُبَّما جاء من ضرورات بناء الشخصية نفسها، لكنْ أنْ تكون صيغة عامَّة وشاملة لجميع الطلبة الجامعيين فهو ما يُعابُ على المسلسل خاصةً إذا تذكرنا أنهم طلبة يدرسون القانون في كلية أهلية ومن طبقات اجتماعية قد لا تكون على تماسٍ مباشرٍ مع قاع المجتمع والمناطق الشعبيَّة التي غالباً ما تستخدم هذه اللغة ومفرداتها.
ورغم أنَّ أحداثاً دراميَّة مُهمّة وقوية وبطابعٍ عنيفٍ قد حدثتْ داخل منظومة علاقات الحب هذه لكنها سرعان ما عادت الى دائرة الإعادة والتكرار، وكان يمكن لهذه الأحداث أنْ تكون منعطفاً درامياً يأخذ الشخصيات إلى طرقٍ ومسالكَ تقودنا بدورها إلى متغيرات دراميَّة مهمَّة وتُحدثُ تغييراً كبيراً في المسلسل ومصير الشخصيات المحوريَّة، وتقف الحلقة 6 على سبيل المثال كأنموذجٍ لعدم حصول أيّ تغيير في سلوك الشخصيات رغم ما تمرُّ به من أحداثٍ عاصفة كالمشاجرة بين (هندرين) و(لؤي) فسرعان ما تمّتْ المصالحة بينهما بعد المشاجرة، هذا إذا غضضنا الطرف عمَّا يفترض أنْ تتخذهُ عمادة الجامعة من إجراءات إداريَّة وقانونيَّة إزاء التصرفات الصبيانيَّة الطائشة لطلبة كلية القانون!
 
الزمن الدرامي
وأقفُ عند موضوع (الزمن الدرامي) وكيفيَّة تعامل المسلسل معه والشعور به، ففي ظل تواجد الشخصيات في رقعة مكانيَّة ضيقة باتَ تراكم حضورها وتفاعلها واحتدامها واختلافها وافتراقها ولقائها هو الشغل الشاغل لها داخل ذلك المكان وتراكم (الزمن) فيه، لذا صارت المشاهد تتراكم والحوارات تدور في زمن يتراكم بعضه على بعض حتى بدا لنا أنَّ الزمن داخل ذلك المكان قد أصبح زمناً مفتوحاً من دون أنْ نشعر بأيامه وأسابيعه وتوقيتاته الدراسيَّة. وقد سّبَبتْ هذه المشاهد المتشابهة والمُكرَّرة حرجاً للمخرج في عدة انتقالات مونتاجيَّة حينما لم يجد فاصلاً زمنياً أو درامياً يفصل بين وجود الشخصيات داخل تلك الدوامة من المشاهد.
عندما شَعَرَ المؤلف أنه قد استنفد أغلب عدته وأدواته في إدارة شبكة علاقات الحب العابرة والمُعلَّقة في الهواء، اضطر إلى إخراج (دريد) من بيئته الضيقة وزجّهُ – دون سابق تمهيد - في محورٍ جديدٍ من العلاقات والشخصيات المتصارعة التي يقودها (ثامر) (أحمد الركابي) ضد منافسيه (نزار السامرائي وطارق شاكر) والقائمة أساساً على الابتزاز الإلكتروني و(تهكير) الحسابات والصفحات الشخصية على الانترنت، ومن ثم استخدامها كوسائل ضغط وتهديد ووعيد.
وداخل هذا المحور بَدَتْ شخصية (دريد) أكثر انتماءً لهذه البيئة وعوالمها من البيئة الجامعيَّة نفسها التي أوجدها المؤلف فيها والتي ظهرتْ وكأنها زُرعِتْ في غير تربتها الملائمة وخاصةً دراسته في جامعة أهليَّة وتخصصها في دراسة القانون، ولم يحرصْ المؤلف على توفير عناصر الإقناع والتأثير لهذ الشخصية بطريقة أو أسلوب أكثر فاعليَّة وحضوراً، لا سيما في سلوكها وتصرفاتها العامة القائمة على الابتزاز والعلاقات العابثة، وحتى في مظهرها الخارجي بالملابس الممزقة والشكل الرث، وغالباً ما تمَّ وصف شخصيته من قبل أصدقائه بأنها عبارة عن (كبسلة) وخمر ومخدرات وحشيشة وعربدة ونساء.
 
ميزة إخراجيَّة
ميزة الإخراج الإيجابية الرئيسة التي تُحسبُ للمخرج: جمال عبد جاسم تمثلتْ لنا بحسن اختيار طاقم التمثيل الشبابي الحيوي المتمكن من الممثلين الشباب الذين نطالعهم أوّل مَرَّةٍ بهذه الحيويَّة والرشاقة الفنيَّة والأداء الذي يقترب كثيراً من التلقائية وقد تخلّصَ من تركات التكلف والثقل الأدائي الذي عُرِفَ به الممثل العراقي، وإنْ بقي التفاوت والتباين قائماً بين ممثلي هذه المجموعة من الوجوه الشابة والطاقات التمثيليَّة الواعدة، واختلف تبعاً لذلك حضور وتميّز بعضهم عن البعض الآخرعلى الشاشة.
ووسط هذه الوجوه الشابة كان الممثل: محمد هاشم قد شقَّ طريقَهُ بإداء ناضج وأمسكَ على نحوٍ مقنعٍ بشخصية مضطربة حائرة بين الهروب من الحب ومحاولة البقاء داخل سكة حياته الثابتة، وبين الانطلاق برغبته من أجل التعويض عن حرمانهِ العاطفي.