تعد الآثار في اي بلد دليلا ماديا على وجود الشعب وأحقيته بأرضه التي يقيم فيها، ولولاها لما بنيت الحضارات والثقافات المتعددة التي تحمل هوية الوطن، ولولاها ايضا لما عرفنا الحقب التاريخية القديمة وطبيعة الاجيال، فضلا عن ربط الماضي بالحاضر والمستقبل، لصياغة المستقبل بالشكل الرصين، فجاء الاهتمام بالآثار وقيمتها التاريخية وصار الدارسون يولون اهتماما كبيرا بها.
وبرزت في عراقنا الحبيب شخصية آثارية غاية بالنبل والرقي، كرست حياتها بعد التخرج في التنقيب والبحث، واحساسها بالتاريخ كان عاليا جدا، انها لمياء الكيلاني التي ولدت عام 1931، وهي آثارية وأكاديمية عراقية، حاصلة على شهادة البكالوريوس في الآثار من كلية الآداب جامعة بغداد العام
1957 بتفوق، وحصلت على شهادة الماجستير من جامعة ادنبرة وعلى شهادة الدكتوراه في الآثار من جامعة كامبريدج في بريطانيا العام 1966.
اتمت دراستها الابتدائية والثانوية في بغداد، ودخلت كلية الآداب جامعة بغداد في قسم الآثار، وبعد تخرجها غادرت العاصمة لحصولها على زمالة في جامعة كامبريدج في بريطانيا لدراسة الآثار لتعود إلى بغداد العام 1961 كأول امرأة عراقية درست الآثار في الجامعات الغربية، وعملت في المتحف العراقي الذي كان يديره في تلك الفترة الآثاري العراقي فرج بصمجي، الذي كلفها بعمل يحتاج إلى بذل الكثير من الجهد والصبر، فقد تكدست في المتحف العراقي آلاف الأختام الاسطوانية، فكلفت الكيلاني بفرزها وتبويبها وتصويرها فوتوغرافيا لغرض أرشفتها، ما ولد في نفسها عشقا سيتطور لاحقا إلى دراسة اكاديمية، بعد ذلك تولى إدارة المتحف أحد أشهر آثاريي العراق وهو طه باقر، الذي كان ذا عقلية متفتحة بما يخص التعامل مع المرأة في حقل الآثار، وقد ابتدأت حينها أعمال التنقيب في موقع قرب بغداد، ما وفر فرصة مناسبة للدكتورة لمياء الكيلاني للمشاركة، وبذلك كانت أول عراقية تشارك في أعمال التنقيب عن الآثار العراقية.
الهوية العراقيَّة
شاركت في اعمال تنقيب في محيط بغداد في تل الضباعي القريب من تل حرمل، فكانت الآثارية المتفردة التي تشارك في اعمال التنقيب، و حصلت على شهادة الماجستير من جامعة ادنبرة وكان موضوع اطروحتها (الأواني السومرية الفخارية الطقسية)، ثم اكملت رحلتها العلمية في جامعة لندن، اذ حصلت على درجة الدكتوراه وكانت اطروحتها عن(الاختام الاسطوانية)، وعملت لسنوات في المتحف العراقي ودرست في العديد من الجامعات والفت وشاركت في تأليف عدد من الكتب، كما شاركت في مؤتمرات عديدة والقت العديد من المحاضرات عن آثار العراق في عدة مدن وعواصم في العالم، ومنها محاضرة حول الاستكشافات الاثرية وبعثات التنقيب في العراق في التاريخ الحديث، وأخرى بعنوان «قصة المتحف العراقي في النصف الأول من القرن العشرين»، والتي تطرقت فيها إلى تأسيس المتحف ومن تعاقب عليه من الآثاريين ومحتوياته وما جرى لها في فترات مختلفة، ودور المتحف في الحفاظ على الهوية العراقية.
قيمة الآثار
كانت الكيلاني ممن عادوا إلى العراق بعد العام 2003، بهدف المساعدة في إنقاذ ما أمكن إنقاذه من الآثار من النهب والتدمير، وقد تطرّقت في محاضرات ومقالات مختلفة إلى الكيفية التي نُهبت بها هذه الآثار وكيف أُعيدت مجموعة منها من مختلف دول العالم، وتألمت كثيرا، حينما دمرت عصابات داعش الارهابية آثار الموصل ومرقد النبي يونس والمراقد الاثرية الاخرى، وكانت تبكي على كل ما تشاهده من صور الدمار والسرقات لآثار العراق، لأنها تدرك قيمتها.
رحلت الكيلاني في كانون الثاني 2019 في عمان، وقد دفنت في بغداد وشيعت بموكب خاص من المتحف العراقي الى مثواها الأخير، وكانت خسارة صعبة بالنسبة لجميع اصدقائها وزملائها، فاعتمدنا على نافورة حكمها ومعرفتها العميقة بالعراق وعلم الآثار في بلاد ما بين النهرين.