دير مار متى... معمار وتاريخ وحكايات
منصة
2021/04/14
+A
-A
بغداد : نورا خالد
منطقة جبلية وعرة المسالك حبتها الطبيعة بجمالٍ أخاذ تحتضن أحد الأديرة الأثرية في العالم وهو “ دير ما متى” . أتاح هذا المكان الشاهق على جبل مقلوب ، فرصة لا توصف من المتع البصريَّة والنفسيَّة للمشاهد والزائر فهو يطل على مساحات شاسعة من الخضرة والتلال والصخور ويطل على بيوتات وقرى تبعد عشرات الكيلومترات عنه. يعد دير مار متى مركزاً لأبرشية مار متى للسريان الارثوذكس التي تضم تحت كرسيها كلا من برطلة، بعشيقة، بحزاني، ميركي، مغارة ومجمعي الفاف والبركة.
معلومات وافرة عرضها أمامي رئيس أبرشية “دير مار متى” ورئيس الدير الناسك للسريان الارثوذكس المطران مار طيمثاوس موسى الشماني، موضحاً “يقع الدير على مسافة 35 كيلو متراً شمالي شرقي مدينة الموصل وهو من الأماكن الأثريَّة التاريخية في العراق ومن المزارات الدينيَّة المقدسة العائدة للسريان الارثوذكس ومن أشهر الأديرة المسيحيَّة صيتاً ومكانة أسسه القديس مار متى الناسك السرياني في غضون القرن الرابع الميلادي وتعين أول رئيس عليه وانضوى إليه بضعة آلاف من الرهبان والمتوحدين من نينوى وبلاد العراق
وفارس”.
مبيناً “لا نعلم التصميم الأول لهذا الدير بسبب الغزوات والكوارث التي ألمَّتْ به فانعدمت فيه الآثار الفنيَّة واندثرت النقوش والزخارف.. أما الباقي الى يومنا هذا من أجزائه الأولى والأصليَّة فهو المذبح وبيت القديسين وهما جزءٌ من الكنيسة، قلاية القديس مار متى والصهاريج وبعض الكهوف
والصوامع”.
الديرعبر التاريخ
بعد مرور 100 عام تقريباً على تأسيس الدير أصيب بحريق هائل عام 480 م، وعلى إثر ذلك قضي عليه وأبيدت معالمه وترك قاعاً، وفي نهاية القرن الخامس عشر عاد إليه بعض الرهبان واستأنفوا الحياة النسكية ورمموا الدير المحترق حتى برز اسمه من جديد في العام 544 م، فواصل مسيرته التاريخيَّة بصورة منتظمة وفي العام 1171 م هجر بسبب الاعتداءات وبقي مهجوراً حتى عام 1187 ثم استؤنفت فيه النشاطات الكنسيَّة في شتى المجالات وفي العقد الأخير من المئة الرابعة عشرة ظهر تيمورلنك الطاغية وتضعضعت أحوال الدير في عهده وانتهى به الأمر الى أنْ أمسى مأوى لبعض المجرمين الذين استوطنوه مدة من الزمن، ونتيجة لذلك تشرد الرهبان وظل الدير مهجوراً منسياً مدة تنيف على المئة وخمسين سنة ثم أخذ يلمع ذكره مرة أخرى بشكلٍ خافتٍ في نهاية القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر الميلادي ثم يتوهج بعد عام 1660 أي في العهد العثماني الثاني فتتسلسل أخباره من ثم حتى يومنا هذا ويسير سيراً طبيعياً خلال الفترة الواقعة ما بين عام 1833 – 1846، إذ تولاه الخراب على إثر غارة محمد باشا (ميراكور) وخلا من السكان اثنتي عشرة سنة”.
وفي العام 1970 - 1973 تجدد الدير تجدداً متيناً بكامل أجزائه، إذ تم إيصال التيار الكهربائي وتبليط الطريق المؤدي إليه من مفرق عقرة والبالغ عشرة كيلومترات، كما بلط طريق آخر يربط الدير بالطريق العام وهو اليوم يعدُّ منطقة دينيَّة وأثريَّة.
مكتبة الدير ومدرسته
وتابع رئيس الدير المطران الشماني قائلاً “يحتوي الدير على مكتبة تضم كتباً مقدسة جليلة نفيسة من القرن الخامس الميلادي كانت تعدُّ في طليعة خزائن الكتب السريانية ثم اندثرت ثم أخذت تبرز الى عالم الوجود ثانية في القرن السابع الميلادي وذاع أمرها وانتشر خبر مخطوطاتها في حدود سنة 800 ميلادية حتى عام 1171 م ونتيجة الهجمات على الدير اضطر الرهبان أنْ يحملوا الكتب ويغادروا الى الموصل وبعد العام 1241 م نقلت الى خزانة والي الموصل بدر الدين لؤلؤ، وفي 1369 م هوجم الدير ونهب ومكتبته الثمينة، إلا أنهم في سنة 1846، استطاعوا جمع زهاء ستين مصحفا”.
مبينا أنَّ “هنالك عدداً وفيراً من مخطوطات هذه المكتبة التي توزعت بين متاحف العالم، منها على سبيل المثال المصحف السرياني الثمين للانجيل الذي أنجزه الراهب مبارك البرطلي سنة 1220 بالقلم الاسطرنجيلي البديع وزينه بـ54 صورة جميلة ملونة في غاية التأنق والإتقان وأوقفه على مذبح دير مار متى بجبل الفاف، أما مخطوطات مكتبة الدير المحفوظة في خزائنه اليوم فهي (العهد الجديد) بعمودين الأول سرياني بالقلم الغربي والثاني تم نقله الى العربي بخط النسخ عام 1177م، وانجيل كنسي سرياني بالقلم الغربي وبحسب النقل الفيلوكسيني والحرقلي نسخ العام 1222 م، كما يضم بعض أسفار العهد الجديد بالقلم الاسطرنجيلي على الرق”.
مشيراً الى أنَّ “مدرسة الدير ازدهرت خاصة في المئتين السابعة والثامنة، ومن أشهر تلامذتها مار ماروثا التكريتي وراميشوع وجبرائيل ولدا اللغوي الكبير والربان سبروي جد الملفان الربان داؤد بن فولوس ال بيت ربان، وقد أسهم أساتذة هذه المدرسة وتلامذتها بالحركة العلمية في العصر العباسي وتابعت سيرها حتى انقضاء القرن الثالث عشر ومن أساتذتها في الفترة الأخيرة مطران الدير مار سويريوس يعقوب البرطلي 1241 م والمفريان العلامة ابن العبري
1286 م”.
عمارته وموقعه
يحدثنا القس دانيال بهنام دانيال كاهن كنيسة مارت شموني للسريان الارثوذكس في بعشيقة عن بناء الدير وموقعه قائلاً: “مبني الدير بحجر الحلان متخذاً شكل مستطيل مساحته خمسة آلاف متر مربع بطول 100 متر وعرض خمسين متراً، ويضم 63 غرفة مخصصة للزوار الذين ينوون تمضية يوم أو أكثر داخل الدير، فضلاً عن 10 غرف أخرى مبنية على شكل جناح مخصصة للمطران والرهبان، كما يضم المكان مكتبة ومخازن ومطبخاً وغرفة
طعام”.
ولفت الى أنَّ “طراز البناء شرقي محض حيث الباحة الوسطيَّة المفتوحة نحو الفضاء تحيط بها الغرف وتنتشر الأعمدة والدلكات والطارمات ويقوم البناء على طابقين وهناك تتوزع أعمال ريازة ونقوش تضفي على المعمار قدراً كبيراً من الأبهة ويلاحظ أنَّ النسبة العظمى من الأديرة القائمة حالياً أخذت ريازتها وطراز بنائها من هذا الدير، ويرتفع المكان من قاعدته الى قمته بنحو 65 متراً، هناك عين ماء تقع أسفل الجبل شرقي الدير وقد ركبت عليها مضخة لسحب المياه الى خزان في أعلى الدير وهي عين تتميز بعذوبة مائها، وآخر المعالم التي يمكن الإشارة إليها هي المغارة الكبيرة التي كانت تستعمل في السابق لإيواء الماشية”.
وأضاف القس دانيال “يبعد الدير عن الموصل مسافة 35 كم وعن ناحية بعشيقة مسافة 10 كم وهو على ارتفاع 2400 قدم وقد تم بناؤه في القرن الرابع الميلادي وتعاون على عمارته 20 ألف عامل واستغرقت مدة البناء زهاء 20 سنة من ضمنها المدة التي استغرقها شق الطريق المعروف باسم (الطبكي) وهو عبارة عن شارع طويل يصعد الى الدير صعوداً حلزونياً في بعض الأحيان ومتعرجاً في أحيان أخرى، ولا بُدَّ خلال عملية الارتقاء قطع 35 استدارة”.
تسترعي الطريق المستديرة الصاعدة الى المكان الانتباه والالتفات الى اليسار قبل الوصول الى الدير بأمتارٍ قلائل، ففي هذه الجهة اليسرى من الطريق وهي جهة الجبل والدير، يقع كهفان كبيران متجاوران تتساقط من سقفيهما حبات الماء على صورة قطرات مطرية متباطئة النزول وهي قادمة من منافذ ومسارب الصخور
الجبليَّة.