يعاود العود تدريجيا حجز مكان له في إيران بعد أعوام طويلة من النسيان، ويأمل عازفو هذه الآلة الوترية التي شكلت محور الموسيقى العربية والتركية، في أنْ تكون وسيلة للتقارب بين شعوب المنطقة. ويقول مجيد يحيى نجاد، الموسيقي وأستاذ العود في طهران: إنَّ “عدد الطلاب (الذين يتعلمون العزف على هذه الآلة) تزايد بشكل لافت منذ نحو 15 عاماً: في ذلك الحين، كان لكل أستاذ معروف نحو عشرة طلاب، الآن يصل عددهم الى 50”.
وتقول أستاذة العود نوشين باسدار البالغة 40 عاماً: إنها “بدأت (تعليم العزف) قبل نحو 23 سنة” بعد تخرجها في معهد الفنون (“هنرستان” بالفارسية). وتضيف “في تلك الحقبة، كانت غالبية طلابي من الكبار في السن (...) الآن، معظمهم من الشبان”.
وعلى رغم حضورها في الموروث الثقافي الفارسي، غابت الآلة الوترية عن التاريخ الإيراني الحديث.
وتوضح باسدار أنها في بداية علاقتها بالعود، “لم نكن نعرف سوى أنَّ العود يعزف في مصر والعراق (...) لم نكن نعرف شيئا عن (وجوده في) تركيا. اليوم نعرف أنه يعزف أيضا في سوريا والكويت والأردن”.
ويشكّل العود أحد المداخل للجيل الشاب في إيران للاطلاع على ثقافات دول مجاورة.
ويقول يحيى نجاد “بات العازفون الشبان في إيران يهتمون بشكل أكبر بالثقافتين العربية والتركية”، وعدد من موسيقيي الدول الثلاث “يصبحون... أصدقاء عبر الانترنت”.
وكانت شهرة العود في الموسيقى العربية معقودة في إيران لـ”بربط”، الآلة الوترية الشبيهة به الى حد كبير، والحاضرة في الشعر الفارسي التاريخي.
وتذكر “بربط” في ملحمة “شاهنامه” (“كتاب الملوك”) للشاعر الفارسي أبو القاسم فردوسي الذي خصص فصلا من الكتاب لرواية استخدام الموسيقي بربد لهذه الآلة الوترية خلال غنائه في ديوان الملك.
وتسعى إيران بالتعاون مع سوريا، الى إدراج “صنع وعزف العود” ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (“يونسكو”).
صوت {دافئ}
ولم يضمن هذا الحضور التاريخي استمرارية للعود في إيران، إذ ضل طريقه الى غياهب النسيان على مدى قرون، وغاب من التراث الموسيقي التقليدي والكلاسيكي لصالح آلات وترية أخرى مثل التار والسيتار والسنتور والكمنجه وغيرها...
لكن الآلة الخشبية عادت بشكل تدريجي في النصف الثاني من القرن العشرين بمساهمة أساسية من الموسيقي منصور نريمان الذي أدخل تعليم العود الى منهج “هنرستان”، ونشر “أول دليل للعود بالفارسية”، وفق يحيى نجاد.
وبدأ اهتمام الراحل بالعود في خمسينيات القرن الماضي، انطلاقا من إعجابه بصوت الآلة “الدافئ”. لكنه يومها لم يعثر على أستاذ يلقنه العزف. غير أنَّ ذلك لم يثبط عزيمته، وفق ما يؤكد يحيى نجاد الذي عاصره لسنوات.
ويوضح الأخير أن نريمان علّم نفسه بنفسه، وراسل مصريين كان سمع عزفهم عبر أثير الإذاعة، طالبا منهم نصائح وإرشادات عن العود. وكان محمد عبد الوهاب من أبرز المتجاوبين
معه.
بعد أعوام، رفد الطالب الذي لم يجد أستاذا لكنه تحول الى أستاذ بارع، الوسط الموسيقي بتلامذة داعبوا الأوتار ببراعة واصبحوا موسيقيين معروفين. وسجّل تلميذه محمد فيروزي أعمالا مع “أستاذ” الموسيقى الإيرانية محمد رضا شجريان الذي توفي العام الماضي.
وحقّق بعض ما أنتجه الرجلان نجاحا كبيرا، مثل “آسمان عشق” (“سماء الحب” في 1991)، و”آرام جان” (“استراحة الروح” في 1998)، و”غوغاي عشق بازان” (“صخب العاشقين” في 2007).
{بركة}
وتستعيد نوشين باسدار ذكريات تعارفها الأول مع العود ثم بحثها بلهفة بين متاجر الآلات في ساحة بهارستان في طهران، مقصد الموسيقيين في وسط العاصمة الإيرانية، حيث عثرت فقط على “آلتين (عود) صنعتا في مصر”، وكان حجمهما كبيرا “بالنسبة الى فتاة يافعة”.
في تلك الفترة، كان عدد صانعي هذه الآلة في إيران “قليلا جدا”، وسعره “مرتفعا جدا”، وفق ما تقول صانعة العود فاطمة موسوي لفرانس برس في مشغلها الصغير في طهران.
لكن الأوضاع بدأت تتغيّر في مطلع الألفية الجديدة، مع دخول مئات الآلات من الدول المجاورة، لا سيما من سوريا وتركيا، ما أسهم في زيادة الكمية المعروضة وانخفاض ملحوظ في الأسعار.
ويرى حميد خوانساري الذي أعد بالفارسية كتابا عن العود، أن الآلة “بركة” لأنها “تسمح بتوسيع آفاق الابداع”.
وخلال الأعوام الماضية، جمعت مسارح وقاعات المدن الإيرانية عازفي عود من دول المنطقة والجمهورية الإسلامية، بينهم اللبناني شربل روحانا الذي عزف مع فرقة “كردون” عام 2016، والتركي يوردال توكان (2017).
وأدرج التونسي ظافر يوسف مقتطفات من الشعر الفارسي في مقطوعاته، وعزف مع أوركسترا عالمية ضمت في صفوفها عازفين
إيرانيين.
ويذكر يحيى نجاد أن العديد من العازفين العرب والأتراك حضروا الى إيران “وأقاموا حفلات ونظموا ورش عمل” اعتبارا من 2016، وهو عام شكّل بداية مرحلة من الانفتاح على إيران. ويأمل يحيى نجاد في أن يعزز التبادل الموسيقي “الصداقة” بين دولها، وأن “تسمح هذه الآلة لأهل المنطقة بأنْ يتصالحوا في نهاية المطاف”.