مرتضى صلاح
العاشر من شهر رمضان المبارك من السنة العاشرة للبعثة الشريفة رحلت أمُّ المؤمنين خديجة الكبرى (ع)، وقيل كانت وفاتها بعد أبي طالب عم الرسول (ص) بثلاثة أيّام. وهناك تواريخ أخرى لوفاتها. وقد صحت الروايات إن عام وفاتها ووفاة ابي طالب قد ألقيا عليه الحزن لما كان لفقد النبي (ص) لهاتين الشخصيتين اثر كبيرفي مسيرة جهاده المقدسة ضد جموع الشرك والضلالة، وربما كان لفقدانهما أثر في بحث الرسول (ص) عن طرق أخرى لدعم مسيرة الاسلام الفتية.
والسيدة خديجة هي أول مؤمنة بدين النبي (ص)، فقد كان يصلي وتقف هي وعلي بن ابي طالب (ع) وزيد بن حارثة للصلاة خلفه في مكة. وهي أولى أزواجه (ص)، ولم يتزوَّج غيرها في حياتها، كرامة واحتراما لها، سبقت إلى الإسلام، وبذلت أموالها في سبيله، ومنها جعل الله ذرية النبي (ص).
لقد تعرض رسول الله (ص) لكل صنوف الابتلاءات من فقد الأهل، وتعرض للتكذيب والإيذاء، والاخراج من بلده ومحاولات قتله، وتعرض للحروب والجهاد، وللإساءة إليه من المنافقين، وهذا ابتلاء آخر له (ص)، لقد توفيت السيدة العظيمة الكريمة الجليلة، بعدما كانت نعمة من نعم الله عز وجل على الرسول (ص)، فكانت صورة رائعة للمرأة الصالحة الصابرة المجاهدة، وبحق فخرا لكل امرأة. حياة امتدت مع النبي (ص) خمسة وعشرين عامًا متصلة، وقد عاشت تؤازره في أحرج أوقاته، تعينه على إبلاغ رسالته، تهُوِّن عليه الصراع الذي دار بينه وبين كفار مكة، تواسيه بمالها ونفسها، تجاهد معه بحق كما لم يجاهد كثير من الرجال. يتحدث عنها (ص) في حب عميق، فيقول كما جاء في مسند الإمام أحمد برواية السيدة عائشة (رض): مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلاَدَ النِّسَاءِ». وروى الترمذي عَنْ أَنَس، أَنَّ النَّبِيَّ (ص) قَالَ: «حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ».
فهي قيمة كبيرة جدًّا في الميزان الإسلامي، من الصعب علينا أن نتخيل قدرها. وروي أن جِبْرِيل أتى النبِي (ص) فقالَ: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت بإناء في إدام، فإقرا عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب (أي من لؤلؤ مجوف أو ذهب منظوم بالجوهر) لا صخب (أي لا صوت مرتفع) فِيه، ولا نصب (أي لا تعب) فقالت خديجة: الله السلام ومنه السلام وعلى جبرائيل السلام. فقد فارقته (ص) في وقت هو من أحرج أوقات الدعوة على الإطلاق. فساعد الله قلبه (ص) لتحمل قلبه الرقيق الحنون العطوف كل هذه المصائب، وقد بلغ الخمسين من العمر، ووهن العظم، وكثرت الهموم، وصعب الطريق، وأظلمت مكة. فالأصحاب في مكة مستضعفون، وبقيتهم، فوق الثمانين، على بعد مئات الأميال في الحبشة. هموم وأحزان بعضها فوق بعض، وأصبح العام بحق عام الحزن، كما ذكرنا في بداية المقال. وانطلاقا من كونها أول من آمن بالله تعالى فقد تحملت مع زوجها الرسول (ص) أعباء الرسالة، وشاركته آماله وآلامه، وتحملت معه شظف العيش بعد غضارته، وبذلت كل ما ملكته طول حياتها؛ لتعطي المثل الأسمى للمرأة المؤمنة، وكانت تلقّب بالطاهرة، وهي امرأة حازمة لبيبة شريفة، ومن أوسط قريش نسباً وأعظمهم شرفاً وأكثرهم مالاً، وقد أنفقت أموالها في أيّام تعرّض المسلمين للاضطهاد والحصار الذي فرضه مشركو مكّة، حتّى أنّ النبي (ص) قال: (ما نفعني مال قطّ مثلما نفعني مال خديجة، وما قام الاسلام الا بمال خديجة وسيف علي)، وكان (ص) يفكّ من مالها الغارم والأسير، ويعطي الضعيف، ومن لا والد له ولا ولد، والعيال والثقل. وقال الزُهْري: «بلغنا أنّ خديجة أنفقت على رسول الله (ص) أربعين ألفاً وأربعين ألفاً. ودفنت في مقبرة الحَجون في مكة المكرمة، ونزل الرسول (ص) في حفرتها، ولم تكن يومئذ سُنّة صلاة الجنازة حتى يصلّي عليها.