فلسفة العدل عند الإمام علي {عليه السلام}

منصة 2021/05/02
...

  صباح محسن كاظم 
الإغواء الشيطاني بسيكولوجيَّة الفرد يعبر عن نزوعٍ نحو الشهوات، والسيطرة، والاستغلال، والاستئثار وقد وضع أمير المؤمنين الحلول الناجعة لمن أراد التصدي للحكم، من خلال تلك الوصايا في عهد مالك الأشتر، بسلوكه الأنموذج بالعدل بالرعية، والرأفة، وتحقيق مصالح المجتمع. كان الإمام علي بن أبي طالب الأنموذج الإنساني في التقوى والزهد، والعدل والاستقامة والفروسية والذوبان الإلهي الخالص بالتوحيد
 
رجل الإنسانيَّة الذي تدفقت منه الحكمة، والفلسفة، والعلم، هذا الحكيم والفيلسوف الزاهد الذي تشرب بالعلم والحكمة من ابن عمه سيد الأنبياء والمرسلين الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال: “خير الناس من نفع الناس، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، لا فرق بين أعجمي وعربي إلا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط”، لقد تربى سيد الفصاحة والبلاغة والفروسية في كنف وأحضان النبوة، ليترجم ذلك عملياً في أفعاله وأقواله، ويقدم لنا وللتأريخ البشري قناديل مضيئة ومشاعل يقتدى بها، فالحاكم يمثل الجموع بلا استئثار أو فردانية أو استغلال بل يعمل لصالح الرعية وحفظ مصالحها وتحقيق العدالة.. لا كما تقوله الميكافيليَّة من أجل مصلحتك فليسحق الآخرين، التي أرست قيم السياسة المشوهة التي تستبيح الكرامات، والحرمات لمآرب ذاتوية “الغاية تبرر الوسيلة” تخص الحاكم وكيفية قيادته، وكأنما الناس قطيع وليس ببشر، أو السياسة الغربية والشرقية بمبادئها التي تدعي كما شرعها فلاسفة “الليبرالية” بسياسة الخطوة خطوة، أو خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، أو خذ وطالب، أو إكذب إكذب حتى يصدقك الناس، أو بديماغوجية الإعلام المضلل والمصالح الاستعماريَّة والاستعباديَّة التي جلبت مئات الحروب في تاريخنا الإنساني، وملايين الضحايا والمعاقين والمشردين والجياع، وهذه صورة العالم البائسة أمام مرأى ومسمع الأمم المتحدة والجمعيَّة العامَّة والمنظمات الدولية، فأين العدالة في توزيع الثروات وحقوق الإنسان، والفقراء بالأرض لا أحد يسمع صرخاتهم وحشرجات الألم المتكسرة بصدورهم؟!
 
التقوى والإيثار
لعلّ مخافة الله تجنب الحاكم والمحكوم الوقوع بحبائل الشيطان ومكره وخداعة وتضليله، لذلك يؤكد العهد العلوي على التقوى.
يقنّن الإمام للعالم في عهده لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) بأسلوب الحكم والرأفة بالرعية في نسق تربوي وعلمي وأخلاقي ومعرفي وحضاري، تكلل بالإجراءات بتطبيقاته بأرض الواقع الإسلامي بحكومة علي (ع) المترامية والتي امتدت لجغرافيات مترامية، وتنهل جميع الشعوب من عهده الإنساني المبارك، الذي يعدُّ أهم وثيقة تأريخية في إقامة العدل، والمساواة استقاها أمير البلاغة وسيد الفصاحة من المنهج القرآني والنبوي الشريف، فالعهد العلوي كصكٍ لحقوق الإنسان المستلّ من الشرع المقدس، كما ورد في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾. يذكر الشيخ المفيد: فخرج مالك الأشتر (رض) فأتى رحله وتهيأ للخروج إلى مصر، وقدَّم أمير المؤمنين “ع” أمامه كتاباً إلى أهل مصر:
“بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله الصلاة على نبيه محمد وآله، وإني قد بعثتُ إليكم عبداً من عباد الله لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر، من أشد عبيد الله بأساً، وأكرمهم حسباً، أضر على الفجار من حريق النار، وأبعد الناس من دنس أو عار، وهو مالك بن الحارث الأشتر، لا نابي الضرس ولا كليل الحد، حليمٌ في الحذر، رزين في الحرب، ذو رأي أصيل، وصبر جميل، فاسمعوا له وأطيعوا أمره، فإن أمركم بالنفير فانفروا وإنْ أمركم أنْ تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري، فقد آثرتكم به على نفسي نصيحة لكم، وشدة شكيمة على عدوكم. عصمكم الله بالهدى وثبتكم بالتقوى، ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.
 
الوعي الفكري لمن يتولى الحكم
 مساحات العلم بالفقه والأحكام والقضاء والحدود وللفكر والثقافة والأدب يشكل الحيّز الكبير في العهد العلوي الشريف، فالكاتب الورع، والعالم الناصح هو صوت الشعب والرعية، أما أديب السلطان وبوقه بكل الأزمنة يعدُّ من الضالين.. والمضللين الذين يوهمون الناس بالخديعة، والزيف لمآرب دنيئة لأنه بتقربه وتزلفه للحكام للانتقاع من الفتات الذي يُغدق عليه، وبالتالي تُـغيَّب الحقيقة ويضل الحاكم بغيه وعدوانه واستئثاره، يمارس الاستبداد لتتورم عقدة الذات، وبالتالي يصبح دكتاتورا ماردا شرسا فاتكا بالأبرياء وذئبًا على المستضعفين من المحكومين، فلا بُدَّ من وجود كاتب بارع بمختلف وسائل المعارف، خبير بأحوال الرجال، محيط بما يجد من الأحداث والأمور، ورتبة الكاتب اليوم في مكتب رئاسة الوزراء كوزير الدولة والمستشار الشخصي أو الإعلامي، ولهذا تجد أمير المؤمنين يؤكد اهتمامه في أنْ يكون كتاب ولاته حاوين لأفضل الصفات، والملكات الثقافية والمعرفية، يرى ضرورة توفرها في من يشغل هذا المنصب، بألا تبطره الكرامة والمركز الذي يحصل عليه من الوالي، فيجاهر بالعصيان والمخالفة والتشدق والتباهي، بل التواضع يسمو بالكاتب والعالم والمفكر، وألا يكون من العقل إلى درجة التهاون بأداء واجباته اليومية، كما يوصي عليه الوالي امتهان كاتبه وإظهار احتقاره يملأ من الناس في نقض تصرفاته وانتقاصها، ويرى “ع” أهم صفة في الكاتب والموظف القريب من الحاكم أنْ يكون عاقلاً متزناً لا يجهل قدر نفسه، فمن يجهل قدر نفسه فهو بقدر الغير أجهل.
الضرائب وإثقال كاهل الرعية
أكد الإمام على الرفق بالمجتمع بجميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والتشريعية... ومنها الضرائب الباهظة، الأتــــوات- نظام الإكراه- كما تفعله النظم الفاشية والدكتاتورية والتوليتارية التي تستعبد البشر.. فالرحمة واللين والصفح من سمات الحاكم الرؤوف..
يقول: د-جورج جرداق في كتابه “الإمام علي صوت العدالة الإنسانية”: “أيها الدهر، ليتك كنت تجمع كل ما أوتيت من قوة.. وأنت أيتها الطبيعة ليتك تجمعين كل قواك ومواهبك لخلق إنسان عظيم.. نبوغ عظيم.. بطل عظيم.. ومن ثم ليمنح الوجود مرة ثانية رجلاَ كعلي”.
المال العام وسرقته
يقول الشهيد الدكتور علي شريعتي: “الإمام علي بمحنه الثلاث كتب إلى بعض عماله يهدده بالقتل لما بلغه من أنه اختلس من بيت المال.. فاتق الله وارده إلى هؤلاء القوم أموالهم فإنك إنْ لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار”.
الخيانة الاقتصاديَّة في الأموال العامَّة حكمها القتل عند علي.. إنها مسألة فقهيَّة، اقتصاديَّة، حقوقيَّة واجتماعيَّة.
في عهد علي كان التساوي في الاستهلاك كما كان التساوي في العطاء، والجميع شركاء في بيت المال.. يذكر العلامة هادي المدرسي: “ومن هنا كان قرار الإمام علي (عليه السلام) العدول عن تمييز الناس في العطاء والعودة إلى نظام المساواة قراراَ مهمّاً؛ لأَنه كان يعني انقلاباً اجتماعيّاً بكل ما تعنيه الكلمة، كما كان ردّ فعل ملأ قريش وأبناؤهم ضد الإمام وقراره هذا بداية الثورة المضادّة ضدّ حكمه، والّتي قادها ابن أبي سفيان “معاوية” من موقعه، وفعل مع الإمام ما فعله أبوه مع رسول الله، وما فعله ابنه – في ما بعد- مع الإمام الحسين “ع”.
 
صيانة الحقوق والدستور
كل حاكم يعدل بين رعيته من خلال المعاملة بالمساواة بين أفراد المجتمع يمتثل للأمر الإلهي.. والدستور الإلهي بالعدل والإحسان وإتمام الحقوق، وكذلك الدساتير التي حاولت تنظم الشأن الاجتماعي بمعايير العدالة الاجتماعية بالنظم التي تبحث عن سعادة الفرد والأسرة والمجتمع.. 
في كتابه “مع الإمام علي “ع” في عهده لمالك الأشتر” يشرح مفصلاً الشيخ محمد باقر الناصري: “... ومن صنوف العدل في الرعية إعطاء كل ذي حق حقه، ومعاملة الناس على أساس من خدماتهم للبلاد والعباد وتكريمهم بمقاييس العمل الصالح لا بالأحساب والأنساب”.
إذا توفرت القناعة لدى الحاكم بأنَّ العمل بتحقيق العدل الاجتماعي ينتج عنه الرضا الإلهي، والإيحاء النفسي بالاستقرار والاندفاع بالعمل الفردي والجماعي لخدمة المواطنة، وبالتالي الخلود بالتاريخ، بينما العكس يؤدي لسخط الخالق والمخلوق. كل مصلح بالإنسانيَّة يرنو ويركن لتطبيق العدل بالمجتمع وبالتالي يشعر الرعيَّة بالأمن والأمان والاطمئنان.
الحاكم المُحسن من يكافئ المخلص النزيه العامل لمجتمعه بجميع المجالات بحرص، بينما يعاقب ويبعد من تثبت الإدانة بحقه بالاستئثار والسرقة والرشاوي بالحكم.. أما الذي يصمت على الباطل يعد هو الشريك الفعلي بالظلم.
يؤكد د-عبد الرسول الغفاري: “أما إصلاح الآخرة فهذا يستلزم ترك ما بأيدي الناس وعدم مجاذبتهم دنياهم، ثم لا بُدّ من الكفّ عن الشره والطمع اللذين يقودان الإنسان إلى الذل والهوان والضعة، فمن أصلح آخرته كانت دنياه كذلك، لأنَّ صلاح الآخرة نتيجة حتميَّة للتقوى التي كان عليها المرء في دنياه”.
ومن العدل عند الإمام علي “ع” عدم تكريس السلطات وحصرها بيد الحاكم المطلق وإنما توزيع السلطات والصلاحيات، ويعدُّ هذا الإجراء هو الأنسب اليوم بكل العالم كما ذكر توفيق الفكيكي: إن الإمام علي (عليه السلام) قد سبق روما وفرنسا بقوله: “واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشتت عليه كثيرها” بعد أنْ أمر بجواز تعدد أعضاء الوزارة.
 
العدل الاجتماعي
منهج العدل الاجتماعي يحصن المجتمع من الإرباك والفوضى، ناهيك عن تحقيق كل ما تصبو له النفس البشرية من المساواة بين أفراد المجتمع، وضمان تحقيق العدالة هو المعيار الواقعي لشعور الفرد بالاطمئنان، بأنَّه يعيش بكامل حقوقه من دون تسلط وهيمنة واستحواذ يهدر كرامته.
يؤكد د.غسان السعد: “أكد الإمام ضرورة سعي الحكام والقضاة ومفكري المجتمع وفقهائه لتطوير القضاء كي يستجيب لمتطلبات المجتمع وردع الجريمة وتقبيت الحقوق، وذلك استناداً إلى فهم صحيح للشريعة الإسلاميَّة وتحقيق مقاصدها، ويمكن عدّ هذه المسألة بمثابة المبدأ الثالث للقضاء الذي سعى الإمام (ع) إلى تطويره وترسيخه”.
 
النظام الإلهي والنظم الوضعيَّة
حقوق الإنسان في الشرائع السماوية من خلال الكتب المنزلة على الأنبياء أكدت بالمناداة بتطبيق العدل والمساواة.. لذا جاء خاتم الرسالات السماويَّة بالمبادئ التي أرست رسالة الإسلام بالحقوق والعدالة الاجتماعيَّة بالقرآن الكريم “إن الله يأمر بالعدل والإحسان”.. والتطبيقات النبوية في الاخاء بين الأنصار والمهاجرين وكل المواقف أكدت المساواة بين المجتمع.. وكرس الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام) جل ّ حياته بين الزهد والعدل، فضلا عن كل السمات الأخرى التي جعلته من الرموز البشرية التي تهوي لها الأفئدة بالعرفان لمواقفه التاريخية، بسبب مجابهته الظلم ومقاومة الفقر والعوّز والفاقة التي تنفر منه النفوس الشريرة.
إن العدل يوطّد الأمن بكل جوانبه الاقتصادية والاجتماعية ويحصل العمران بالبلاد، حيث يدفع بالعمل من أجل الجميع وليس لطبقة ما للاستئثار بالخراج أو العمران، فالمنفعة تحيط بجميع الأفراد. وذكر السيد محمد الرضي: “لقد اشتهر الإمام علي بأنه كان أقضى أهل زمانه وأعلمهم بالفقه والشريعة، ولم يكن بينهم من هو أقضى منه وأقدر على إخراج الأحكام من القرآن والحديث والعرف المأثور. وكان النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- ينصح الصحابة باستشارة علي ويقول لهم: “أقضاكم علي”. 
 
التنمية الاقتصادية
 كل الاقتصاديين الذين كتبوا عن الإصلاح الاقتصادي بالعالم والشعوب والدول فديمها وحديثها.. ركزوا على التوزيع العادل للثروة، وعدم الاستئثار بالمال العام، وتبديده.. بل تنمية جميع القطاعات الصناعية، والزراعية، وجميع المرافق الأخرى لأجل التنمية المستدامة وتوفير فرص العمل.. والقضاء على البطالة.. وهدر الطاقات.. فيما نجد أن الإمام علي بن أبي طالب (ع) ركّز على تلك الجوانب الإصلاحية للتنمية الاقتصادية .التنمية عمادها وأساسها إقامة العدل وتوفير تكافؤ الفرص بإيجاد المعالجات باستصلاح الأراضي وقنوات الري والزراعة التي تؤدي إلى تطور الصنائع الأخرى وتشغيل الأيدي العاملة وتحرك الأسواق، رغم أنَّ الأعداء لم يمهلوا الإمام علي (ع) الفرصة بالسلام لكي يعزز كل مقولاته الاقتصاديَّة بالعدالة الاجتماعية من أجل تحقيقها، مع ذلك سمة عصر الإمام هو العدل الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، التي ينشدها الإنسان بكل الأزمنة ويبحث فيها عن سعادته.. واستقراره واطمئنانه، لأنَّ الأزمات الاقتصادية تخلق الفجوات الاجتماعية، والتفاوت الطبقي، وتنشأ جبهة من المُستَغلين بجانب جبهه للمُستغلِين، وتجعل التوتر قائماً بين أفراد المجتمع حين الشعور بالغبن والظلم وسيطرة مجموعة اقتصادية على الآخرين، إن إرساء العدل الاقتصادي هو أحد أسس التنمية التي تسير عليها الدول المتقدمة اليوم وتلك المبادئ التي تدعو لها الأمم المتحدة.. والمنظمات العالمية بحقوق الإنسان.. فيما سبق ذلك الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام) كل الرؤى والأفكار والعهود والبيانات والنداءات حينما جسدها بالمجتمع الكوفي.. ونادى بتطبيقها من خلال عمّاله على الأمصار بكل مكان يخضعون للخلافة.. من أجل القسط بالعدل بين الناس.