بيداء مهدي
كان الإمام عليٌّ بن ابي طالب (ع)، في تدبيره سياسة الدولة، لا يكافح العصبية القبلية وحدها، ولا يسوي القضية المالية فحسب، وإنما أراد أن يعود بالإسلام إلى ينابيعه الأولى في عهد النبي (ص). وقد ابتعد الناس عن هذا العهد طيلة ربع قرن، وهي مهمة صعبة مع اعتياد الناس حياة البذخ والترف وحب الجاه والسلطان يشق طريقه إلى قلوب القوم، وبدأ حب المال يسيطر على التفكير، وكان لا بد للإمام أن يصلح هذا كله، وأن يتدارك هذا كله. وقد بدأ أمير المؤمنين (عليه السلام) الإصلاح والتدارك بسيرته الذاتية، فكان أحد المسلمين وإن كان أميرهم، فلم يستأثر بفيء، ولم يمل إلى رفاهية، ولم يتكلف سعة، بل ضيّق على نفسه وأهله وولده كل التضييق، ليتأسى به الفقير. وكان (ع) حريصاً على أن يشيع العدل بين الرعية، فساوى بالعطاء، ولم يجامل أحداً بالحباء، ويتفقد أهل الحاجة، ويطعم الجائعين بنفسه، وقد صدّق بهذا عمله قوله: (أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أكون لهم أسوة بجشوبة العيش ومكاره الدهر).
وكان الإمام (ع) يخلو إلى نفسه آناء الليل وأطراف النهار متهجداً مصلياً مناجياً ربه، فما أن يؤدي ما عليه للمسلمين، حتى يتفرغ للعبادة تفرغاً تاما، وهو يقول: (إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتك). وهكذا تكون عبادة الأحرار، قوة قلب وبصيرة نافذة. فإذا لاحت زبارج الدنيا خاطبها: (إليك عني... يا دنيا غري غيري فحبلك قصير...).
وكانت هذه الشخصية الزاهدة يقظة متحركة صامدة تجمع إلى الزهد القوة والإدارة فكان تدبير الجيوش، وإدارة شؤون الأقاليم، وإلزام الأمراء والعمال والولاة بتعليماته الخالدة، فأعذر في التبليغ، ونأى عن الطغيان والجبروت والأثرة، فقد التزم الإمام (ع) معايير التدبير المنظّم، وأنس معالم التنظير الدقيق. كل ذلك يجيء بعد فوضى الحكم، وعنتٍ السلطان، وتباين الأهواء والآراء، وطبيعي أن إمساك الأمر بروية وأناة في مثل هذه الظروف ينبعث عن حكمه متناهية.
فمن وصية له (ع) لعسكره بصفين قبل لقاء أهل الشام ينهى فيها عن البغي، ويمنع من قتل المدبر، والإجهاز على الجريح، ويأمر فيها بالتريث في الحرب وعدم الابتداء بها، ويلزم جنده بالتغاضي عن إثارة النساء، وإن سببن الأمراء وشتمن الأعراض، مما يعد منهجاً حربياً متميزاً، وقال (ع): (لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم، فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول؛ إنا كّنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو الهراوة، فيعيّر بها وعقبه من بعده...).
هذه السنن الحربية التي خطط لها الإمام تنطلق من مبدأ الدفاع عن النفس، ولا تنجرّ إلى إرادة شهوة الحرب، وتنبعث من صميم تعاليم الرسول الأعظم (ص) في العفو والتغاضي، وتنسجم وطبيعة النظام الإسلامي في التوصل إلى معالي الأمور، والابتعاد عن توافه الأغراض.