علي لفتة سعيد
لا يكاد انسان عربي يذكر العراق إلا ويذكر معه ما يتفرد به من لهجة (شكو ماكو) وأكلة السمك (المسكوف) التي صارت العلامة العراقية الفاخرة، ويتميز بها الانسان العراقي وليس مطبخه، لان هذه الاكلة هي الوحيدة التي تنتج في مطبخ معروف لدى الجميع، سواء في المطاعم او مطابخ البيوت، انها أكلة الشواء بالطريقة العراقية التي تنطلق في الهواء الطلق على الأرصفة أو ضفاف الأنهر والبحيرات وفي السفرات الاسرية والجماعية، اذ يكون السمك المسقوف واحدا من ترغيبات السفر وإعلان الفرح وما يطلق عليه (الونسة) في اكتمال تفاصيلها.
ما قبل الميلاد
لا يبدو الامر وليد العصر الحديث في هذه الأكلة التي ذاع صيتها، ليس في البلدان العربية فقط، بل وصل الى اغلب دول العالم، فالمصادر تقول ان هذه الاكلة يمتد تاريخها الى أكثر من سبعة آلاف عام من العهد السومري وكذلك الآشوري والبابلي والاكدي، اذ وجدت بعض الالواح التي يمكن أن تكون الكتاب الاول للطبخ في العراق القديم وبالتأكيد سيكون الكتاب الاول في التاريخ العالمي، ولكن هذه الالواح كما قال الباحث في التراث الشعبي صاحب الشريفي تعطي ملمحا عن جذور هذه الاكلة واضاف «في القرون الوسطى عندما كانت بغداد عاصمة للخلافة العباسية، بلغ المطبخ العراقي ذروته، وكانت فنون الطبخ حاضرة في الحياة المدنية للعراقي والتي لا يمكن ان تكون بمعزل عن التلاقح بين الاكلات في الدول المجاورة مثل تركيا وإيران وسوريا».
بعثة ايطاليَّة
اكد الباحث التاريخي حسن الوزني ان بعض المصادر تشير الى ان أقدم طبق «سمك مسكوف» في العالم يعود إلى ما قبل 4500 عام، اذ أعلنت بعثة تنقيب إيطالية في مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار عن اكتشاف ما يعتقد بأنه أقدم طبق في العالم، وذكر رئيس البعثة الإيطالية الدكتور فرانكو دي أوغستينو في تصريح له ان آخر التنقيبات التي يجريها فريقه في موقع تل أبي طبيرة الأثري، والذي يعود إلى ما قبل 4500 عام، كشفت أن سكان تلك المنطقة كانوا يعيشون آنذاك بنمط حياة مشابه لما عليه الآن، وبين ان البعثة التنقيبية فوجئت بالعثور على طبق طعام يحتوي على عظام سمك معد بطريقة مشابهة تماما لطريقة إعداد السمك المسكوف حاليا في العراق، ويعتقد من التحليل وآثار الحرق على بقايا العظام أن السمكة قطعت من منطقة الظهر وشويت تماما كما تطهى اليوم.
صلة وجذور
إن هذا الاكتشاف يؤكد الصلة بين شي السمك بالطريقة العراقية، اذ لا تفتح السمكة من بطنها كما في البلدان الاخرى بل من ظهرها، بدءا من رأسها حتى آخر منطقة من ذيلها ثم تفتح وتفرش على شواية من حديد، ثم تهيأ النار في مكان مفتوح للهواء داخل صحن حديدي كبير، سواء كان دائريا او مستطيلا تنتصب فوقه مساطر حديدية لتثبيت شواية السمك بطريقة عمودية بما يشبه التعليق مع النار التي تستخدم في ايقادها انواع متعددة من الخشب، لكن اغلبها اغصان اشجار الصفصاف، ولا تكون الاسماك المشوية قريبة من النار جدا بل يصلها لهيبها (لفح النار)، اذ يمكن لمن يقف بالقرب من الشواية أن يرى نزول قطرات دهن السمك وهو ما يعد الاهم في هذه الطريقة العراقية التي تنتج سمكا لذيذ الطعم، فبعد شي السمك النهائي على جمر الخشب يقدم مع الخبز الحار والطرشي والمشروبات الغازية والبصل والخضراوات، ثم يختم بالشاي العراقي المهيل.
تراث بغدادي
واكد الباحث صاحب الشريفي أن هناك طريقتين للشي بعد تنظيف السمكة من كل ما في أحشائها بالماء ويرش عليها الملح، الاولى هي وضعها في شواية حديدية مشبكة على شكل بيضوي او مستطيل مكونة من طبقتين، اذ توضع السمكة بين طبقتي الشواية وتغلق، وعن الثانية قال: تصنع في جلد السمكة فتحتان أو ثلاث، لمكان تعليق الأوتاد لمن لا يملك الشواية الحديدية ومن ثم توضع بشكل عمودي مع النار، ويشير الى أن أشهر انواع السمك المسقوف هو السمك النهري وغالباً سمك الشبوط أو البني، واستدرك «ان (المسكوف) أصبح من التراث الشعبي العراقي، و اختصت به مدينة بغداد والتي ذاع صيتها بين الدول العربية والاوروبية»، مؤكدا «ان في مدينة بغداد، والتي يقطعها نهر دجلة, تنتشر المطاعم التي تقدم هذه الأكلة ومعظمها يقع في شارع «أبو نواس» وسمي على اسم شاعر مشهور من بلاد الرافدين توفي في بغداد سنة 198 للهجرة, وله تمثال في الشارع نفسه، حيث يتم اصطياد أنواع خاصة من الأسماك لهذه الأكلة من نهر دجلة مثل سمك البني و الشبوط أو القطان، والتي يجب أن تكون بحجم معين لكي تتم عملية الشواء على أكمل وجه»، موضحا ان «الاسر العراقية عادة تجتمع يوم الجمعة على اكلة السمك المسقوف وهي من العادات والتقاليد، كونه يوم عطلة رسمية، ولا بد من اكلة مميزة حتى يحلو اللقاء، وغالبا يكون الاختيار هو اكلة السمك».