أحداث غزة كشفت عن فشل سياسة ترامب – نتانياهو

آراء 2021/05/30
...

 باتريك كوكبرن  ترجمة: أنيس الصفار 
 
أوقفت حماس واسرائيل «حربهما» التي استمرت 11 يوماً، ولكن المشهد السياسي بدأ يتغير حتى من قبل ان يتوقف اطلاق النار. المواجهة الاسرائيلية الفلسطينية الأخيرة أحدثت تحولاً، من حصر التركيز بغزة وحدها الى التركيز على جبهات متعددة، القدس، الضفة الغربية، واسرائيل نفسها، فالتصاعد في اي واحدة منها قد يؤجج دورة عنف جديد. الاحداث التي شهدتها مدينة القدس هي التي أشعلت الأزمة الحالية، واحتمال تجدد ذلك محتمل تماماً. جماعات اليمين المتطرف الاسرائيلية عازمة على احكام قبضتها على المدينة وانهاء الوجود الفلسطيني فيها ما استطاعت.
 والزعماء الاسرائيليون كانوا يأملون أن تسفر سياسة «الكنتنة» مع الفلسطينيين – المقسمين الى ثلاثة ملايين في الضفة الغربية ومليونين في اسرائيل ومثلها في غزة وثلاثمئة ألف في القدس – عن تجزئة وجودهم وتقطيع اوصالهم سياسياً وجغرافياً. هذه السياسة بدت وكأنها سائرة نحو النجاح لبعض الوقت، ولكن الاسبوعين الاخيرين أثبتا أن تحرك الازمة في احد الكانتونات الفلسطينية قادر على الانتقال بسرعة الى الكانتونات الثلاثة الباقية.
محاولات الشرطة الاسرائيلية لإخراج الفلسطينيين من حي الشيخ جراح بالقدس، واستخدامهم قنابل الصوت والدخان في المسجد الاقصى، هي التي جعلت حماس تطلق رشقات صواريخها من غزة. هذا بدوره حرك الاحتجاجات بين الفلسطينيين داخل اسرائيل على نطاق أوسع مما شهدناه في اي وقت، منذ الانتفاضة الثانية قبل 20 عاماً، حيث تدفق المتظاهرون الى الشوارع في الضفة الغربية وجميع المدن. 
رغم كل الجدل الأجوف حول حل الدولة الواحدة ام الدولتين للمشكلة بين فلسطين واسرائيل اثبتت نتائج الحرب الرابعة، التي انطلقت من غزة، ان كامل المساحة الواقعة بين نهر الاردن والبحر المتوسط إنما هي وحدة سياسية واحدة، وما يؤثر في أحد الاجزاء تتأثر به الاجزاء الباقية كلها.
أظهرت حرب غزة الاخيرة ان اسرائيل لا تمتلك ستراتيجية عسكرية او سياسية فعالة للمعركة حين تشتبك مع الفلسطينيين. يزعم الجنرالات والمسؤولون الاسرائيليون انهم اضعفوا البنية التحتية العسكرية لحماس وقتلوا بعض قياداتها، كما دمروا جزءاً من منظومة انفاقها، ولكن اسرائيل اصابتها البغتة بلا شك عندما اطلقت حماس 3700 صاروخ الى داخل اسرائيل رغم العزل المفروض على غزة منذ 15 سنة.
حتى لو ثبت أن لدى حماس من القوة العسكرية ما يفوق التوقعات قليلاً فإن التفوق الاسرائيلي على هذه القوة شبه العسكرية التي تواجهها في غزة، والتي تكاد تكون معدومة القدرات، أمر لا شك فيه. مع ذلك فشل هذا التفوق مرة تلو اخرى في تحقيق النصر، أو بالاحرى ان اسرائيل تعلم يقيناً كيف سيكون عبء هذا الانتصار. فمن الناحية الواقعية لن تستطيع اسرائيل قهر حماس وتغيير النظام في غزة إلا بإعادة احتلالها، وهذا من شأنه التسبب باستثارة اكبر واندلاع مقاومة أقوى. لقد ثبت للتو فشل سياسة ابقاء الفلسطينيين هناك تحت وطأة الحصار الكامل، على نحو ما عاشوا طيلة 15 عاماً الأخيرة.
ادعاءات الجيش الاسرائيلي تحقيق النجاح لتبرير موافقته على وقف اطلاق النار ليست اكثر من ستار دخان للتغطية على فشل اسرائيل في تحقيق اية مكاسب فعلية من عمليات قصفها، التي لم تسفر سوى عن مقتل 232 فلسطينياً بينهم 65 طفلاً. المعلقون الاسرائيليون كانوا اكثر صراحة وأصدق اطلاعاً بخصوص هذا الفشل من نظرائهم الغربيين، فقد وصف «آلوف بين» رئيس تحرير صحيفة هآرتز الاسرائيلية المواجهة الأخيرة بأنها: «اشد عمليات اسرائيل في غزة فشلاً وعدماً على الاطلاق». واضاف أن كل اجهزة العلاقات العامة في الجيش الاسرائيلي لن تستطيع حجب الحقيقة، وهي ان الجيش لا يملك ادنى فكرة عن كيف سيمكنه شل قوات حماس وافقادها توازنها. تدمير انفاق الحركة بالقنابل الثقيلة يكشف ما لدى اسرائيل من قدرات ستراتيجية ولكن من دون الحاق اضرار جدية دائمة لقدرات العدو القتالية.»
دول عديدة واجهت مثل هذا الاحباط في خوضها ما يسمى «الحرب غير المتناظرة» ضد خصم أضعف من حيث القدرة العسكرية ولكنه لا يمكن دحره. حدث مثل هذا لبريطانيا في ايرلندا الشمالية خلال الفترة 1968 - 1998، والرد العقلاني لأية حكومة تفشل في تحقيق مأربها بالقوة المادية هو السعي للحوار السياسي والتوصل الى تسوية مع الجانب الاخر. 
لكن هذا هو بالضبط ما لن يقدر عليه رئيس الوزراء الاسرائيلي وشركاؤه السياسيون. فعلى مدى ربع قرن كانت ستراتيجية «بنيامين نتانياهو» قائمة على أساس ان اسرائيل تستطيع تحقيق السلام الدائم، من دون الحاجة للتفاهم مع الفلسطينيين. هذه النظرة، السائدة من يسار الوسط الى اليمين المتشدد، ترى ان الفلسطينيين قد هزموا هزيمة حاسمة، لذا ما من حاجة للتنازل عن اي شيء لهم. وعندما اعطى الرئيس «دونالد ترامب» دعمه الكامل لهذا الموقف المتشدد المتعالي خلال سنوات ولايته الاربع اقتنع كثير من الاسرائيليين بأن نتانياهو كان محقاً.
كانت غزة تبدو معزولة باحكام، والضفة الغربية كأنها مفتتة الى «بانتوستانات» فلسطينية ومستوطنات اسرائيلية مستمرة بالتوسع، والقدس مغلقة من الخارج ومن الداخل يجري تطهيرها من الفلسطينيين، بينما يبقى الفلسطينيون في اسرائيل اقلية مقهورة رغم اهميتها. أما الدول العربية فماضية في تطبيع العلاقات مع اسرائيل، والقضية الفلسطينية لم يعد لها ظهور على الاجندات الدولية.
كل هذا كان سراباً. فحرب غزة الأخيرة قد تبدو مثل الثلاث اللائي سبقنها في 2008 - 2009 و2012 و2014، ولكنها اهم منهن بكثير لأن سياسة نتانياهو وترامب قد انهارت هنا ولا يوجد ما يمكن ان يحل محلها، الازمة الاسرائيلية الفلسطينية القديمة عادت وهي اكثر وهجاً وانتشاراً. المعلم الجديد المحمّل بالنذر هو خروج فلسطينيي اسرائيل الى الشوارع، مطالبين بالمساواة وانهاء سياسة التمييز، والمستوطنون الاسرائيليون من الضفة الغربية قد عادوا هم ايضاً الى اسرائيل للتظاهر ضد الفلسطينيين في المدن والبلدات ذات التواجد اليهودي الفلسطيني المشترك.
هذه التطورات لا تعني ان ميزان القوة بين الاسرائيليين والفلسطينيين قد انقلب فجأة لصالح الفلسطينيين، حيث إن إحدى العقبات في اقناع الاسرائيليين على مختلف الأصعدة بضرورة التعامل مع الفلسطينيين تتمثل في اعتقادهم أنهم ليسوا مضطرين الى ذلك بعد.
وقف اطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ بين اسرائيل وحماس صباح الجمعة فاتحة مرحلة جديدة من عدم الاستقرار المموّه. يرى «دانيال ليفي»، وهو دبلوماسي سابق، ان اسرائيل ستبقى تعيش حالة ازمة دائمة لأنها لا تملك حلاً عسكرياً لمشكلة غزة وحماس، في حين تمنع الثوابت الايديولوجية قادة الجناح اليميني من السعي الى خيارات دبلوماسية وسياسية.
لقد انكشف الآن ان فكرة اضعاف الفلسطينيين عن طريق شق صفهم وتفريقهم قد انتهت الى مردودات عكسية، فالقادة الاسرائيليون سيترتب عليهم من الان فصاعداً ان يتعاملوا مع أربع سلالات جديدة مختلفة من الازمة الاسرائيلية الفلسطينية، مثلما حدث في حالة فيروس كورونا، وكل سلالة منها قد تصبح هي السائدة وتطلق تفجرات جديدة. 
عن موقع «كاونتر بانتش»