الرسائلُ الديوانيَّةُ خطابٌ رسميٌّ بوجهٍ إبداعي

منصة 2021/05/31
...

 د.عبد الخالق حسن
 
من بين الأمم المتفردة في استيعاب التحولات الحضارية، كان العرب في الطليعة دوماً. الحكم هنا ليس عاطفياً ولا منحازاً، لكنه ينطلق من وقائع وشواهد كثيرة لا تعد ولا تحصى.
طوال تاريخهم قبل الإسلام وبعده وصولاً إلى منتصف عمر الدولة الأموية تقريباً، لم يعرف العرب التنظيمات الإدارية التي هي نتاج الدول المستقرة، لأنَّ مسيرتهم لم تشهد ولادةً لدول مركزية، سوى دولتين كانتا تدينان بالولاء لامبراطوريتين قويتين، هما مملكة المناذرة في الحيرة التي كانت تتبع بلاد فارس، ومملكة الغساسنة في الشام التي كانت تحت نفوذ الروم. أما باقي العرب، فكانوا قبائل متناثرة، فيها قبائل مركزية تخضع لها القبائل الأصغر.
مع مجيء الإسلام بدأ يظهر شكل جديد لنمط الإدارة لم يعرفه الحجاز سابقاً، تمثل بدولة لها رأس هو النبي (صلى الله عليه وآله) والخلفاء من بعده، فيها تعريفات إداريَّة محددة، لكنها لم تأخذ شكل الدولة المكتمل. لكنْ مع تحول السلطة إلى الأمويين، اكتمل شكل الدولة وتحول إلى نمط وراثي يشبه سيرة الملوك، وبسبب تأثرهم بالقرب من الروم، سار الأمويون في منهج بناء الدولة وفق سلوك إداري وانتهوا إلى تعريب الدواوين التي تعادل الوزارات في زمننا الحاضر.
مع وصول العباسيين للحكم، استفادوا مما تركه الأمويون في النظام الإداري وتوافرت لهم أسباب الانطلاق نحو بناء نظام إداري رصين، وكان من أهم هذه الأسباب هو العناصر الأجنبية التي كانت تمتلك خبرات ثقافية وإدارية هائلة، والتي استقرت في مركز الخلافة ببغداد، فعملت هذه العناصر على ترجمة تراث الأمم السالفة، ومن بين ما نقلوه وترجموه طرقهم في الإدارة.
كانت رئاسة الدواوين عند الأمم الأخرى تخضع لشروط قاسية تجعل المتصدين لرئاستها على قدر عالٍ من الثقافة والحنكة الإداريَّة والمؤهلات الشخصيَّة، التي تجعله جديراً بهذه الرئاسة.
من بين هذه المؤهلات القدرة على صياغة الرسائل الديوانيَّة، التي تشبه الكتب الرسمية التي تصدر من الوزارات اليوم. وقد ترك لنا رؤساء هذه الدواوين نصوصاً نثرية تحمل الكثير من ميزات النثر الفني، الذي يجعل منها تراثاً أدبياً جديراً بالتحليل والبحث والنقد والفحص لمستوياته الإبداعية والجمالية. إذ كانت هذه الرسائل تصاغ بشكلٍ فني يقوم على الدقة والرصانة، فضلاً عن شموله على التوجيهات الرسمية، وهنا تكمن أهمية هذا الجنس النثري الذي كان نتاجاً طبيعياً للتطور الحضاري الذي عرفته الدولة العباسية. فهو يتحرك في مساحتين، مساحة الشكل الرسمي الذي يمثله الجانب الإداري فيه، وجانب آخر يجعله صورة إبداعية ودليلاً على تطور فنون النثر في العصر العباسي. ولعلَّ أبرز ما أسهم في ارتقاء هذا الفن النثري هو تعدد الدواوين وكثرتها، حتى صار لكل مسؤول كبير في الدولة ديوانه الخاص، فكان هذا مدعاةً للتنافس بين الكتاب من أجل الحصول على وظيفة رئاسة الديوان، ابتداءً من ديوان الخلافة نزولاً إلى ديوان أصغر مسؤول، وطبعاً هنا كانت المؤهلات الشخصية هي المتحكمة بالحصول على رئاسة الديوان، لهذا كان النشاط التعليمي في ذروته، لأنَّ الحصول على منصب رئاسة الديوان يعني ثراءً ووجاهةً كبيرين لصاحبهما.
إنَّ شيوع نمط الرسائل الديوانية كان استجابة حضارية طبيعية للتطور والانتقال الثقافي والفكري والسياسي في الدولة العباسية. وما تركه لنا التراث العربي في هذا الباب هو السبب الذي جعلنا نجزم بفرادة العرب في استيعاب المنجزات الحضارية، التي سبقتها بهم الأمم ليوظفوها خير توظيف، ومن بينها طبعاً موضوعة الدواوين وإسهامها في تطور النثر الفني الإبداعي، الذي ما زال يخصع حتى يومنا هذا إلى الدراسات النقدية التي تبحث في أساليبه وجمالياته.