إيشان ثرور
ترجمة: أنيس الصفار
بعد أن هدأت حرب التراشق في غزة فجر الجمعة يبدو أن الاسرائيليين والفلسطينيين غدوا اكثر استعداداً للعودة الى وضعهم السابق الهش المتأزم. فبعد ما يقارب اسبوعين من قصف لا يرحم لقطاع غزة المحاصر ادعى المسؤولون الاسرائيليون ان اهدافهم العسكرية قد تحققت.
كذلك اعلنت حركة حماس، التي أطلقت من معاقلها في غزة اكثر من 4300 صاروخ على المناطق الاسرائيلية، أنها قد سجلت نصراً، ومن المرجح انها ستخرج من هذه المعركة مثلما فعلت في الجولات السابقة.. جريحة ولكنها مرفوعة الرأس.. ولعلها اليوم اكبر شأناً في عيون اخوانها لأنها واجهت اسرائيل التي تفرض على ملايين الفلسطينيين احتلالاً لا يلين طرفة عين، ولن يغير من الصورة أن مئات الفلسطينيين وعشرات الاسرائيليين قد فقدوا حياتهم.
رغم هذا يعتقد كثير من المحللين والعارفين ببواطن الصراع الا عودة بعد الآن الى ما كانت عليه الأوضاع في الماضي، فعنف هذه الجولة الأخيرة باغت الحكومة الاسرائيلية وإدارة بايدن معاً، ولكنهما ما كان عليهما أن تباغتا، فاستفزازات قوات الأمن الاسرائيلية وتجرؤ المتشددين اليهود من اليمين المتطرف على حشد مسيراتهم في القدس نفخت كلها في جمر غزة الذي لم ينطفئ. بعد ذلك تصاعدت احتجاجات الفلسطينيين ضد خطط التخلية في المدينة المقدسة المتنازع عليها، ولم تلبث أن اندلعت الصدامات عندما قررت قوات الأمن الاسرائيلية مداهمة المسجد الاقصى. هنا برزت حماس كمدافع عن ثالث أقدس مقدسات المسلمين وعن مطالبات الفلسطينيين الأوسع بالقدس، وعلى اساس ذلك أطلقت هجماتها. الحرب التي تلت ذلك انتشرت في الارض من النهر الى البحر ووقعت مصادمات في الضفة الغربية، واشتبك العرب واليهود الاسرائيليون مع بعضهم في المدن الواقعة ضمن حدود اسرائيل 1967.
تفجر التوترات كشف الخلل الوظيفي في المعسكرين السياسيين الاسرائيلي والفلسطيني. ففي الجانب الاسرائيلي أدى الفشل في تشكيل تحالف مستقر بعد عامين من الحملات الانتخابية الى اضعاف الادارة الحاكمة وبذلك أتيح لجماعات اليمين المتطرف دخول المعترك السياسي. اما بالنسبة للفلسطينيين فقد تعمقت ازمة الشرعية التي تواجهها السلطة الفلسطينية المحاصرة ورئيسها، لأن تجدد نشاط حماس لم يأت إلا بعد قرار رئيس السلطة الفلسطينية بإلغاء اول انتخابات فلسطينية يخطط لاجرائها بعد مرور أكثر من عقد ونصف.
المسؤولون الاسرائيليون والأميركيون يبدون التفاؤل بعودة «الهدوء» بعد وقف اطلاق النار، في حين يخشى الخبراء أن يحدث العكس، لأننا لم نشهد حواراً مثمراً بين السلطة الفلسطينية التي نال منها الضعف والحكومة اليمينية في اسرائيل التي يجاهر سياسيون كثيرون فيها برفض مبدأ قيام دولة فلسطينية مستقلة. كذلك فإن اسلوب اسرائيل الراسخ في فرض سيطرتها على المناطق الفلسطينية وزحفها المستمر لضم اراضي الفلسطينيين، من دون أن تلقى ردعاً من حكومة الولايات المتحدة قد لا ينجم عنهما إلا استثارة المزيد من المقاومة الغاضبة.
يعتقد المحلل السياسي الفلسطيني خليل الشقاقي أن من الصعب ابقاء الضفة الغربية خارج الصدام المقبل، او حتى الصدام الحالي، لأن التنسيق الأمني بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية لن يكفي وحده لاحتواء اللهب، ونظراً للخطاب المنادي بالضم لن ترغب اية حكومة اسرائيلية يمينية في السير مجدداً بعملية سياسية تقتضي منها التفاوض مع السلطة الفلسطينية، وهي لن تستطيع ذلك ولو كان بخطوات صغيرة متراكمة.
هذا الوضع كان آخذاً بالتطور منذ أمد، حيث تظهر عملية مسح حديثة اجراها باحثون من الولايات المتحدة أن الغالبية الان ترى حل الدولتين مستحيلاً بعد ان تضاعف تعداد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية وشرق القدس «حيث يفترض ان تقوم الدولة الفلسطينية» سبع مرات منذ عقد التسعينات. كما ان حركة المستوطنين تمثل اليوم طليعة اليمين الاسرائيلي، وهؤلاء غير معنيين بأهداف الدولتين وفق اتفاق اوسلو 1993.
تقول «تمارا كوفمان ويتس»، من معهد بروكنغز، إن التخلي الاسرائيلي رسمياً عن الحل التفاوضي، الى جانب استمرار توسع المستوطنات والتهجير القسري للأسر الفلسطينية من شرق القدس ومن احيائهم في الضفة الغربية تجعل وقوع ازمة جديدة أمراً شبه حتمي. لقد تأكد بوضوح، كما تقول ويتس، إن اطار العمل الذي اتفق عليه في اوسلو قد انتهى وان الاساس المنطقي للنظام السائد في الضفة الغربية، بما فيه السلطة الفلسطينية، لم يعد له وجود.
يرى مروان معشر، وهو دبلوماسي وسياسي اردني سابق، أن يتمحور الكلام عند الحديث عن الشعب حول مسألة الحقوق. يقول: «لنواصل بحثنا عن شكل من اشكال الحل، ولكن تجاهل حقوق الشعب لا يمكن ان يدوم طويلاً».
الفلسطينيون من جانبهم يحاولون ابراز هذه النقطة بجلاء. فالاضراب العام مؤخراً شهد مشاركة جماعية من عرب اسرائيل «الذين يعدون انفسهم فلسطينيين أولاً» ومن فلسطينيي الضفة الغربية وشرق القدس وغزة. من ذلك يرى محللو المشهد الفلسطيني بوارق عهد تعبئة
جديد.
يقول طارق باكوني من مجلة «استعراض لندن للكتب»: « أولاً، أن سكون الشعب الفلسطيني، الذي كثيراً ما يتهم باللامبالاة وعدم الاكتراث، لن يبلغ ابداً حد الاستكانة للهزيمة. لقد اثبت هذا الشعب ان اسرائيل لن تستطيع الاستمرار في سياساتها دون دفع ثمن. ثانياً، ان التفجر الجماعي في عموم مناطق فلسطين التاريخية، وبصرف النظر عما اذا كان سينبثق من احداث اللحظة الراهنة تحرك اوسع، يثبت ان الفلسطينيين سيبقون شعباً واحداً رغم آمال التجزئة والتقسيم الزائفة».
كتب يوسف منيّر في صحيفة «نيويورك تايمز» يقول: «على مدى السنوات كان الاسرائيليون يبرمون السلام مع أمة هم قادرون على تطويعها، مهما بلغت وحشية الوسائل، بدلاً من حل المشكلة. ساعدتهم في ذلك سياسة ستر قبحهم وارء الجدران. فغزة، المحاصرة داخل قفص، تعيش كما لو كانت على كوكب آخر، والضفة الغربية يستطيع اي اسرائيلي أن يقطعها بسيارته من دون ان يتعكر نظره برؤية فلسطينيين. لقد نبذ الفلسطينيون في اسرائيل الى داخل مناطق تجميع مهملة».
لكن منيّر يعود فيضيف ان التحركات والاحتجاجات الجماعية قد وضعت الاسرائيليين امام واقع جديد، وهو ان فلسطين ليست مجرد بقعة يشار اليها باستهانة ويقال: «هناك»، بل هي حولهم من كل مكان.
عن صحيفة «واشنطن بوست»