الابتكار من أجل السلام

آراء 2021/06/02
...

  محمد كريم الخاقاني 
أصبحت المتغيرات المتسارعة في عالمنا ضرورة حتمية وأولوية للعديد من الدول، لكي تكون في المراتب العليا في تحقيق التنمية المستدامة وإرساء اسس التنافس الدولي في ما بينها، ومن هنا يعد الابتكار من المسائل الرئيسة في إدامة العلاقات الدولية، وعلى هذا الاساس فإن الابتكار عملية توليد الأفكار وتطوير السلوكيات ووضعها موضع التطبيق، وذلك استجابة لتلك المتغيرات سواء في البيئة الدولية او الداخلية، وفي الاتجاه نفسه تشمل عملية الابتكار كل ما يتعلق بتطوير المنتجات والتقنيات والخدمات المقدمة وكل الخطط والبرامج.
ومن أجل استثمار الابتكار في العلاقات الدولية، ارتبطت تلك الآلية بمدى قدرة الدول على تطويع انظمتها السياسية وانتهاج سياساتها الداخلية، وبما يؤهلها الى إحداث التأثير المطلوب في تفاعلاتها الدولية. وبالرجوع قليلاً الى احداث عقد التسعينيات من القرن العشرين وما تلاه من تداعيات تمثلت بتفكك القطب الثاني في التفاعلات الدولية ونقصد به الاتحاد السوفييتي السابق وما تمخض عنه من قيام جمهوريات متعددة، وانسحاب تأثيرات ذلك على تفرد الولايات المتحدة الأميركية في قيادة العالم وبما ينسجم مع توجهاتها واهدافها، لذا كانت الحاجة للإبتكار ملحة في ابتداع آليات جديدة تتماشى مع المتغيرات التي طرأت في البيئة الدولية، كتبدل طبيعة النزاعات وتحولها من دولية الى داخلية بين الدول، فضلاً عن توسيع دائرة تهديد السلم والأمن الدوليين وعدم إقتصارها على الأمن العسكري بل تعداه الى مستويات جديدة لم تكن مألوفة اثناء مرحلة الحرب الباردة، مثل حالات الإنتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في دول متعددة في العالم، والاعتداء على الأنظمة الديمقراطية، وانتشار ظاهرة الإرهاب الدولي واسلحة الدمار الشامل والكوارث الطبيعية وغيرها من الحالات، التي استوجبت التعامل معها بوسائل وآليات مستحدثة. ومن هنا يمكن ربط الابتكار بمداخل جديدة تسهم بشكل فاعل في تعزيز السلام داخل المجتمعات التي تعاني من الصراعات المستدامة، وذلك من خلال تبلور إتجاه( ابتكار السلام Peac Innovation) والذي يُعنى بالقدرة على إنتاج حلول قابلة للتطبيق في مناطق الصراع وإحلال السلام فيها، وكذلك العمل على تقليل تأثيرات حالات الطوارئ والكوارث في دول العالم، وكما اطلق الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق بطرس بطرس غالي مبادرته المسماة «اجندة من اجل السلام» في العام 1992 بعد تكليفه من مجلس الأمن عقب إنعقاد قمة الرؤساء، على إعداد تصورات وتحليلات لدور فعال وقوي للأمم المتحدة بعد إنتهاء الحرب الباردة، وهذه الرؤية شكلت بمجملها خارطة للمنظمة الدولية للقيام بدور فاعل ومؤثر في البيئة الدولية، لاسيما بعد تلك المتغيرات الدولية الجديدة بعد عام 1991.
وتعتمد فكرة «ابتكار السلام» على أسس ومنطلقات، الأول يهتم بالنواحي الأخلاقية اي بمعنى ربط الابتكار في اي مجتمع بالأخلاق السائدة فيه والقيم، التي يؤمن بها أفراد ذلك المجتمع، وبما يحقق غاية وهدف الابتكار والذي يحد من سوء استخدامه، ويعمل على تعظيم الفوائد المتوقعة منه وبما يسهم في تعزيز حالة التعايش السلمي وقبول الآخر المختلف، وهذا يقودنا الى الأمر الثاني المتعلق بتطبيقات التكنولوجيا وفرص استثمارها بشكل جيد لتكون محفزات للسلام في تلك المجتمعات، إذ إن اللجوء الى وسائل التواصل الاجتماعي يعني التعرف على سلوكيات وطرق تفكير افراد المجتمعات، ومن هنا ستكون تلك العمليات التكنولوجية آليات جديدة لتحويل العنف الى دعوة للتعايش السلمي بين افراد المجتمع وعبر إستخدام المنصات الإلكترونية، اما المنطلق الثالث التي تعتمد عليه عملية ابتكار السلام فهو يتعلق بطابع الحيادية، التي يجب ان تكون عليه الابتكارات ومهما كانت انواعها ومجالات إستخداماتها ومنتجاتها، فهي وسيلة تحدد مدى إيجابية وسلبية من يتعامل معها وفقاً لطبيعة المدركات الذاتية لكل مستخدم لها.
إنَّ أصل عمليات السلام مرتبط بالحوافز والمثبطات، ففي كل عملية لجعل السلام واقعاَ في المجتمعات التي تعاني من الصراعات يجب هنا حساب التكاليف والفوائد المترتبة على حالتي الحرب والسلام، وتقتصر تلك الحسابات بشكل اساسي على الجوانب المادية، وكما حدث في تقديم الدعم في ليبيريا وكمبوديا في عقد التسعينيات من القرن العشرين، إذ اسهمت الجهات المانحة في توفير ثلثي المساعدات المالية عبر الوكالات والبرامج الإنسانية التابعة للأمم المتحدة وبالتعاون مع المؤسسات الحكومية في كلا الدولتين من اجل الوصول الى اكبر عدد ممكن من ضحايا العنف فيهما.
ومن تلك الأسس والمنطلقات، يمكن ان تتحول عملية الابتكار في مجال السلام الى «قوة سلام Peace Power» وتطبيقها بشكل واقعي عبر إستخدام سياسات وأطر تنظيمية تسهم فيها دول ومنظمات بقصد إنجاح عمليات السلام داخل تلك المجتمعات التي تعاني من 
صراعات.