العراق ومخاطر تطبيقات التزييف الرقمي بالفبركة العميقة
علوم وتكنلوجيا
2021/06/03
+A
-A
الدكتور صفد الشمري
التزييف الرقمي للمحتويات الفديويَّة، والذي تعرف تطبيقاته بالفبركة العميقة، صارت من أكثر نتاجات الذكاء الاصطناعي خطورة في مجتمعات اليوم، حين مكّنت صنّاع المحتويات الرقميَّة المحترفين، من القيام بتزييف مقاطع صوريَّة متحركة لشخصيات عامَّة أو حتى غير معروفة، لمآرب متعددة، لتضيف تحدّياً جديداً شديد القسوة في استهداف المجتمعات والأشخاص، في مقابل فرص محدودة للغاية من فرص برامج التحقق الرقمي من كشف زيف تلك المقاطع أو نفيها، بالنظر للتقدم المتسارع في مجال تحديثات تطبيقات (الفبركة العميقة)، لا سيما مع المجال الرقمي العراقي، الذي يرزح تحت وطأة أدنى مستويات الوعي بالحماية والأمن الرقمي.
الأصل الغائب
أكثر معالم الخطورة في تلك التطبيقات، هو عدم وجود أصلٍ حقيقي للفيديو المزيف، يمكن مقارنته وتقديمه للعيان للدلالة على واقعة التزييف، فتلك التطبيقات تصنع فيديوهات بصوتٍ وحركة لأشخاص هم لم يقوموا بها فعلاً، كما هي الحال مع الصور المزيفة بالفوتوشوب وباقي برامج معالجة الصور، حين يمكن تقديم أصل الصورة، ومقارنتها بالمزيفة منها، لإثبات التزييف وإقناع المتلقي بوجود التلاعب.
«الفوتوشوب» البرنامج الذي دمر نظرية أنَّ (الصورة لا تكذب)، تعقبه وبقية برامج معالجة الصور تطبيقات الفبركة العميقة، التي شكلت صدمة ما يعرف بـ»انهيار الواقع»، حين كسرت كل قواعد صدقيات الفيديو المتحرك عبر الشاشة.. وهنا تكمن خطورتها.
تلك التطبيقات تقول عنها مؤسسة الأبحاث العسكرية (داربا)، الذراع التقني لوزارة الدفاع الإميركيَّة، أو ما يطلق عليها «عقل البنتاغون» إنها صارت تهدد الأمن القومي الأميركي، فكيف تكون الحال مع مجتمعاتنا المحلية مع تلك التطبيقات؟
يمكن لتطبيقات الفبركة العميقة اليوم أنْ تظهر أي شخص وهو يتحدث بشكله ونبرة صوته الأصلية في أمورٍ لا يعرف عنها شيئاً على أرض الواقع، وتعرضه للتسقيط أو الاستهداف، بتقنيتي البث المباشر، أو التسجيل والعرض عبر شاشات التلفزة أو اللوائح الرقميَّة في وقتٍ لاحق، مثلما يمكن – تماماً - لأي مجرم أنْ يتنصل عن جريمته التي وثقتها أجهزة المراقبة الصوتيَّة والصوريَّة، تحت ذريعة أنها مفبركة.
التلاعب بالقصص
صارت الحاجة إلى التنويه بمخاطر الفبركة العميقة ملّحة للغاية في العراق، ففي الوقت الذي صارت فيه تطبيقات (الغرافيكس) محترفة في صناعة قصص وهميَّة وغير حقيقيَّة، عن طريق التلاعب في حوليات تلك القصص، وتغيير الحقيقة للأفلام التي تتداولها مواقع الانترنت ووسائط التواصل الاجتماعي وحتى التلفزيون، فإنَّ تطبيقات (الفبركة الرقميَّة) صارت تتمكن من معالجة القصص، بالتلاعب بأبطالها أنفسهم، بوساطة تزييف رقمي متقن لصورهم وأصواتهم، الأمر الذي يظهر ضرورات التوعية بمخاطر في مجتمعنا المحلي ولفت انتباه المستخدمين إلى التعاطي الحذر مع القصص التي يتم نشرها وبثها، وعدم الإسهام في الترويج لمضامين الفبركة العميقة، التي يتوقع أنْ تكون تطبيقاتها مشاعة بالمجان في غضون أربع سنوات فقط، مثل تطبيقات متعددة أخرى، من قبيل فايبر وواتس آب.
وطبقاً للمعلومات المتوفرة عن تلك التطبيقات، «فإنَّ الفبركة العميقة أو التزييف العميق دمجاً بين التعلم المتعمق، وبين الزيف.. وهو استخدام الذكاء الاصطناعي في عملية التزييف، إذ قضى المختصون بها سنوات في العمل على إنشاء برنامج صممه لاكتشاف ما يسمى (فبْركة الفيديوهات)، وهي عبارة عن مقاطع فيديو تبدو مقنعة للغاية، يتم فيها استخدام رأس شخص في فيديو آخر لجعله يبدو كما لو كان يقول ويفعل أشياءً لم يفعلها في الأصل، وتعدُّ بعض مقاطع الفيديو متطورة للغاية، بحيث يمكنها محاكاة أشكال الوجه وتعابيره، على غرار عملية الرَّمش».
لقد شهدت تكنولوجيا الفبركة العميقة تطوراً كبيراً، إذ باتت هذه التكنولوجيا تسمح لأي شخص لديه إمكانية الاتصال بالإنترنت بارتكاب عمليات احتيال، من السهل تصديقها، فبعض مقاطع الفيديو الحقيقيَّة التي نشرتَها على حساباتك بالشبكات الاجتماعيَّة قد تكون كافية لعمل نسخة أو نموذج لك يبدو حقيقياً، ويورّطك في كلام وأفعال لا تعرف عنها شيئاً، وأصبح من الصعب حتى بالنسبة للخبراء أنفسهم، التعرف على مقاطع الفيديو المزيفة.
وتفيد المعلومات بأنَّ «التكنولوجيا التي تهتم بتجميع مقاطع الفيديو مستمرة في التطور، حيث سنبْلغ مرحلة بالمستقبل القريب، من 2 إلى 4 سنوات، لتصبح فيها مقاطع الفيديو المزيفة أكثر واقعيَّة، ويمكن أنْ تنطلي بسهولة على الأشخاص المبتدئين.. لذلك، هناك حاجة مُلحّة لاستخدام التقنيات المعتمدة في الأدلة الجنائيَّة لمساعدة المستخدمين على التحقق من صحة هذه المقاطع.
وفي عصر الشبكات الاجتماعيَّة الذي يصعب فيه التحقق من الشائعات الكثيرة المتداولة تبدو الخطورة مضاعفة، لا سيما أنَّ كثيرين لا يبذلون جهداً للتحقق مما يقرؤونه أو يشاهدونه على الشبكة العنكبوتيَّة، والأكثر أهمية هو أنَّ التقنية الجديدة ستفاقم الأمر بشدة وتجعل من التحقق عملية أكثر تعقيداً بكثير».
أصحاب تلك التطبيقات يبررون استحداثها بأنها: «لم تكن مصمَّمة في البداية لغايات سيئة، حين تم إنشاؤها لإظهار قدرة خوارزميات الذكاء الاصطناعي على فهم هياكل الصور المعقدة، وانَّ المؤسف أنْ يتم استعمالها وإساءة استخدامها من قِبل منفذي مقاطع الفيديو المزورة لأغراض خبيثة».
في طريق المواجهة!
يحتم شيوع تطبيقات الفبركة العميقة في مقابل أزمة برامج التحقق الرقمي عن كشف التزييف الحاصل في المضامين التي تنتج عبر تطبيقات تلك الفبركة على المؤسسات المعنية بقطاعات الإعلام والاتصالات في العراق بأنْ تباشر بحملات علاقات عامة للتوعية بمخاطر تلك الفبركة، وتنبيه المستخدمين من التعاطي مع القصص التي يعود نشرها بضرر اجتماعي أو أمني على صعيد المجتمعات والأفراد.
لا سيما أنَّ الإعلان عن بزوغ عصر (الفبركة العميقة) في أول مرة عن طريق فلم مفبرك لأوباما عام 2017، يأتي بالتزامن مع أعلان الجيش الأميركي في العام نفسه إلى التحول إلى عقيدة (التقنين)، أي التحول من البوارج والأساطيل الضخمة وحاملات الطائرات، إلى الجندي السوبر، الذي يعتمد التقنية الرقميَّة في المواجهة، الأمر الذي يثير الاحتمالات أنْ تكون تطبيقات الفبركة العميقة هي إحدى أدوات الصراع الدولي المقبلة.
توفرها بالمجان
ويمكن للطروحات التي تتحدث عن إمكانية توفير تطبيقات الفبركة العميقة بالمجان للمستخدمين على هواتفهم الجوالة منطقية، في حال المقارنة مع تطبيقات أخرى هي متوفرة اليوم كانت قد صممت في أساسها لأغراضٍ عسكريَّة، ومنها نظام GPS، الذي كانت (داربا) قد صممته لأغراض استهداف المواقع بالطائرات، وجربته في العراق لأول مرة عام 1991، تحت مسمى نظام تحديد المواقع.
وتزيد خطورة تلك التطبيقات مع مواجهة العراق للإرهاب في أبشع صوره، الأمر الذي يجعل من مخاطر تلك التطبيقات تهديداً محتملاً للأمن الوطني، في حال استخدامها من قبل المجموعات الإرهابية، أو حتى في مجال الابتزاز الإلكتروني، والتسقيط السياسي والاجتماعي، بالتزامن مع بزوغ نظام IPTV الذي يشكل أحد أبرز تحديات عملية البث التلفزيوني التقليدي على مستوى العالم.