البير كامي (Albert Camus) عاشق أعراس الجزائر والانتماء المستحيل

آراء 2021/06/03
...

 د. فخري العباسي* 
تمر هذه السنة الذكرى الستين لاستقلال الجزائر عن فرنسا. وقد تمثل هذه الذكرى فرصة للتطرق إلى أحد أبرز الأدباء، ذلك هو الكاتب والفيلسوف المثير للجدل البير كامي الذي ولد في الجزائر وعاش فيها، ولكنه تمسك مع ذلك بهويته الفرنسية رغم تعلقه بالجزائر التي كان يعدها بلده، والواقع فإن كامي، بعدّه من مواليد الجزائر، طالما عبر عن حبه وشغفه واعتزازه بالجزائر التي أراد أن تكون بلده ثم اكتشف عن أن انتماءه إليها لم يكن يسيرا، بل كان شبه مستحيل إن لم نقل مستحيلا.
تعبق نصوص كامي الأدبية بروائح الجزائر وتنتشر في مفرداتها وسطورها، إشعاعات الشمس الجزائرية وخضرة أراضيها ووديانها الواسعة وزرقة مياهها الصافية ونقاوة سواحلها الذهبية. يكفي للقارئ أن يتصفح روايتيه المشهورتين : الغريب والطاعون، لكي يتحسس معه تلك اللمسات الأصيلة التي جعلته موضع إعجاب الجزائريين أنفسهم قبل الأوروبيين.
تجسدت مشكلة الانتماء لدى كامي منذ بداية حياته السياسية، التي ترك بصماته عليها في العديد من الصحف الفرنسية الصادرة حينها في الجزائر، واستمرت معه ليجعل منها أسلوبا يختلف عن التعريف المألوف لفكرة الالتزام. فها هو ينتمي إلى الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1933، وهو لم يزل بعد في مقتبل عمره بحماس دفعه إلى محاولة ترويج أفكار الفلسفة الماركسية ليس فقط لدى المستوطنيين الأوروبيين في الجزائر، وإنما لدى الجزائريين الأصليين أيضا، لكي يتركه بعد سنة واحدة فقط لأنه لم يجد فيه جوابا على تطلعاته الإنسانية في حزب لا يتردد، حسب رأيه، من استعمال مبادئه لاضطهاد الإنسان في نظام شمولي تسلطي لا يعرف للاعتراض أو حتى للنقاش أي فضاء ممكن. وهكذا، نراه يعلق على تمزيق بطاقة انتسابه للحزب الشيوعي بكلمات تخفي مشكلة انتمائه حيث يقول : «أما بالنسبة لي وأنا الشخص الذي لا أملك بدون شك أي شيء قطعي أقترحه، فإنني أرى في هذا العالم أشياء معرضة للموت والاختفاء في الشرق كما في الغرب وأرى في  الوقت نفسه أشياء يجب أن تحيا لدى الإنسان».
ادرك كامي وهو بعمر العشرين بأن الانتماء الحقيقي ليس في الالتزام بأفكار حبيسة ومتقوقعة في حزب واحد قد تكون مبادئها مستندة الى تحرير الإنسان من سيطرة رأس المال، إلا أنها غير قادرة على تطوير أفكاره ومعتقداته لتتلاءم مع تطلعات 
الإنسان. 
لذلك، فإنه اختار بدلا من الانتماء إلى حزب واحد، أن يتحول إلى شاهد حي وحر على عصر يعيش فيه، يأخذ منه الكثير ويعطيه الكثير بأقصى حرية ممكنة، شاهد يتمرد على كل ما يمس فضاء حريته الواسع.
علق الكاتب إيوجين أيونسكو «Eugène Ionecso» على مشكلة الانتماء السياسي لدى كامي قائلا : «كنا بحاجة كبيرة إلى هذه الرجل العادل، فهو عمل للوصول إلى الحقيقة، ولهذا فإنه لم يخضع إلى أي تيار، بل كان قادرا على أن يصبح نقطة دلالة فقط». يعبر هذا التعليق عن ازمة غياب الانتماء بمفهومه التقليدي لدى كامي. فهو أراد أن يكون شاهدا على عصره، بعدم انتمائه للجمود وإنما للتغيير الذي يرفض الانتماء الدائم ويدعو إلى جعله ظاهرة إنسانية متحركة ومحركة تتطور مع الثوابت الإنسانية وتتكيف على متغيراتها، يرفض ماهو سلبي ويوافق بشروط على ما هو إيجابي، «وهو ما عبر عنه في مؤلفه الفلسفي، الإنسان المتمرد الذي يجسد مفهوم التمرد الإنساني والاجتماعي والسياسي، الذي يرفض الجمود ويدعو إلى التمرد الدائم على الثوابت المغروسة لدى الإنسان».
وفق هذا التصور الفلسفي، عاش كامي أزمة انتمائه المستحيل إلى الجزائر. فهو إنسان أحب الجزائر وعايش سكانها، أوروبيين كانوا أو جزائريين، وجسد سحر هذه الفسيفساء البشرية والطبيعية في وصف معبر رسم لوحة، بل لوحات وخلدها في أعراس ملونة نالت إعجاب الاوروبيين والجزائريين على حد سواء.
أعراس كامي التي تتكون من أربع محاولات صحفية تصويرية كتبها بين عامي 1936 و1937، تمثل مفتاحا يكشف عن خفايا انتمائه المرغوب والمستحيل في آن واحد للجزائر التي قال عنها : «أنا أحب هذه الحياة بشيء من التنازل وأريد ان اتحدث عنها بحرية تامة، فهي تمنحني نوعا من الفخر بحالتي الإنسانية. ومع ذلك فلطالما قيل لي: لا يوجد سبب لديك لكي تكون فخورا، بلى، هناك أسباب: هذه الشمس وهذا البحر وقلبي الذي يقفز في أرجائه شبابي وبدني المغطى بطعم الملح والديكور الواسع الذي يلتقي الحنان في أجوائه مع عبقرية اللونين الأصفر والأزرق».
ومع ذلك، فقد عاش كامي معزولا عن الجزائريين الاصليين، نظرا لصعوبة اندماجه في المجتمع الجزائري، وهو بالرغم من حبه للجزائر والجزائريين، لم يكن يرى الجزائر مثلما كان يراها الجزائري الاصيل.
الواقع، إن البير كامي أدرك منذ البداية استحالة الانتماء للجزائر ليس فقط لأنه لم يكن مندمجا بالمجتمع الجزائري، ولكن لأنه وببساطة شكل جزءا من الاقلية الأوروبية الفرنسية التي استوطنت الجزائر والتي اعتنقت عقلية استعلائية، كان من أهم مظاهرها نبذ المواطن الجزائري الأصيل وإهماله، أي أن الجزائر كانت بالنسبة للمستوطنين بلدا لمواطنين من الدرجة الأولى هم المستوطنون والمواطنون من الدرجة الثانية هم الجزائريون، سكان البلد الأصليين.
أدرك كامي هذه الحقيقة وحاول أمام الفقر والقهر والحرمان الذي عانى منه الجزائريون خلال الفترة الاستعمارية وأمام الاضطهاد والتمييز والاستعمار الثقافي، الذي تعرضوا له والذي شرذم الهوية العربية، أن يحذر من هذه الحالة في مقالاته التي حملت عنوان «الأحداث الجزائرية»، ودعا إلى التذكير بأن للجزائر خصوصيتها الخارجة عن نطاق الشمولية الفرنسية وبأن مشكلات الجزائر لا تنتمي إلى مشكلات 
فرنسا.
دافع كامي عن الجزائر وعن الجزائريين، إلا أنه لم يحث على استقلالها، بالرغم من دعواته لمنحها خصوصية جزائرية وهوية نوعية تحافظ على انتمائها الفرنسي، مثله مثل انتمائه الذي يعشق الجزائر ولا يريد الانسلاخ عن فرنسا. 
عانى كامي كثيرا من استحالة انتمائه إلى الجزائر واقترح حلولا كثيرة أمام امتداد الثورة الجزائرية في كتاباته، كان من ابرزها حل ارتكز على نبذ العنف بين المستوطنين والجزائريين واقترح إنجاز اتحاد فيدرالي يجمع المكونين ضمن إطار الاحترام المتبادل بينهما. لم يكن هذا الحل ممكنا مثله مثل مسألة انتماء كامي
 للجزائر. 
وبقي كامي غير قادر على الانتماء للجزائر إلا عبر ولادته على أرضها ودفاعه عنها وعن مواطنيها. ثم إزدادت الهوة بين الجزائريين والمستوطنين واضطرت فرنسا إلى منحها الإستقلال الذي لم يشهده كامي نظرا لوفاته في شهر كانون الثاني 1960 أي قبل ستة أشهر فقط من استقلال الجزائر. وخرج منها المستوطنون الذين اختاروا هم أيضا الهوية الفرنسية. 
كان لا بد أن يقول لسان حال كامي أمام استقلال الجزائر، لو كان قد عاش هذا الحدث، بأن ليس من السهولة تصحيح أخطاء قليلة، فكيف والأخطاء التي ارتكبت في الجزائر قد أدت إلى سقوط آلاف القتلى الجزائريين، ربما وصل عددها إلى نحو مليون شهيد وآلاف أخرى لدى القوات الفرنسية والمستوطنيين الأوروبيين الذين خسروا أرضا كانوا قد ولدوا عليها والتحقوا بأرض أجدادهم التي استقبلتهم مرغمة على ذلك.
 
 * كاتب واكاديمي عراقي مقيم في باريس