المثال العراقي للزبونيَّة السياسيَّة

آراء 2021/06/06
...

 صلاح حسن الموسوي
«خذ من هناك واعط هنا»، هذا هو الاختصار الأكثر تعبيراً عن مفهوم الزبونيَّة السياسيَّة، وهذا المفهوم يندر حضوره في الأدبيات السياسيَّة العربيَّة، مقارنة بمفاهيم «الفساد، المحسوبية، الرشوة» الأكثر تداولا في توصيف التعاملات اللاشرعيَّة في عوالم الإدارة والسياسة والاقتصاد، فعلى الصعيد العربي صدرت دراسة مهمة وفريدة تقريباً عن مركز دراسات الوحدة العربيَّة للدكتور حافظ عبد الرحيم بعنوان «الزبونيَّة السياسيَّة في المجتمع العربي: قراءة اجتماعيَّة سياسيَّة في تجربة البناء الوطني في تونس».
 
ينتهي الباحث فيها الى طرح السؤال الآتي: «هل عامل القرابة لا يزال حاضراً خلال ممارسة الفعل الاجتماعي والسياسي؟» «وهل ما زالت العصبيَّة بوصفها شكلاً من أشكال التضامن تفعل فعلها؟». لا سيما في «مرحلة ما بعد الاستقلال التي تزعمتها نخب تحديثيَّة تبنت قيماً ونماذج مغايرة؟». لم يحظ مصطلح «الزبونيَّة السياسيَّة» بحقه في توصيف الأنظمة السياسيَّة العراقيَّة، إذ طغت مقولات «المحاصصة، التبعيَّة، الفساد» في أدوات الإعلام السياسي العراقي، ولم يؤد كثرة الخائضين فيها من قبل الناقدين للنظام السياسي العراقي الحالي من زحزحة العراق من موقعه كبلد يشيع فيه الفساد ويعاني من التدخلات والأطماع الدولية والإقليميَّة. ومن جهتها حافظت البنى القرابيَّة والطائفيَّة على صلادتها وقوتها في تصدير الطبقة السياسيَّة الى الحكومة والبرلمان. وتهميش دور الكفاءات الوطنيَّة المستقلة في الإسهام الفعال في بناء الحكم الرشيد، ويعود الغياب الأصيل في التشخيص لأهمية آليَّة «الزبونيَّة السياسيَّة» في تحليل المشهد العراقي الراهن الى التشوهات في الثقافة السياسيَّة العراقيَّة بسبب التخريب الممنهج من قبل النظام السابق، وحرصه على قطع الصلة بين هذه الثقافة وعلوم مهمَّة كعلم الاجتماع وعلم النفس والجدل والديالكتيك الفلسفي، فضلاً عن انشغال المثقفين والمحللين السياسيين العراقيين بظاهر القوة للطائفة والعشيرة في العمليَّة السياسيَّة، والذي حرصت الولايات المتحدة بداية دخولها للعراق على اعتماده في توحيد طبقة السياسة العراقيَّة عبر نظام الرواتب العالية للمسؤولين ومواربة باب الفساد المالي والإداري لمنح فرصة جني الأموال الطائلة من الأفراد في السلطة، وبالتالي خلق طبقة سياسيَّة منسجمة «أفقياً» عبر توحيد مصالحها، وتخفيف انقسامها «العمودي» على أساس العرق والطائفة.
يعود منبت الدراسات الحديثة حول الزبائنية السياسيَّة المعاصرة الى الجامعات البريطانيَّة، وقد امتد هذا الاهتمام الى الجامعات الأميركيَّة وكانت معظم هذه الدراسات حتى سبعينيات القرن الماضي ذات طابع انثروبولوجي محض، يركز على المجال الاجتماعي الريفي او المتخلف، أما دراسة علاقة الزبائنيَّة بالنظام السياسي فهي حديثة نسبياً وتحليلاتها بسيطة». ولكن بشكل عام تعرف الزبونيَّة «بتوزيع الموارد والنفاذ الى مصادر السلطة الرمزية «الدولة، الدين» من خلال آلية مستندة على الولاءات الشخصية التي يتم نسجها عبر المؤسسات القائمة, فهذه الآليَّة ليست بمؤسسيَّة في حد ذاتها، كما أنها ليست حكراً على أبناء قبيلة أو طائفة بعينها. وبتعبير مختصر فإنَّ الشعار الأكثر تمثيلاً للزبونيَّة هو «خذ من هناك واعط هنا»، وعلى صعيد الطبيعة العالمية للزبونية يبرز مفهوم «الشبكة الاجتماعية» كقاعدة تبنى عليها العلاقات بين «الأصدقاء السياسيين»، وبحسب وصف يوسفان «تشبه الشبكة الاجتماعية من الناحية البيانية التخطيطية دائرة اتصالية, تحدد هذه الدائرة كيفية تواصل بعض الأشخاص بطريقة معقدة ولكن من دون ذكر كيف يجب أنْ يتواصلوا، وتكون الرسائل داخل هذه الشبكة عبارة عن صفقات بين أفراد خاصين».
وكمثال مهم, تعدُّ وسائل العولمة المتطورة «فيسبوك, تويتر» وكذلك القنوات التلفزيونية الفضائية, عاملاً أساسياً في تمدد الزبونية وتمركزها, خصوصاً عبر وسائل الإعلام التي تجعل من هذا المثقف أو المحلل السياسي زبوناً دائماً لهذه القناة التي تروج لسياسات الدول أو الأشخاص الداعمين لهذا الموقع الالكتروني أو تلك القناة الفضائيَّة. وفي العراق لعب امتلاك عدد لا يستهان به من السياسيين العراقيين لجنسيات أجنبية، دوراً في الانضواء ضمن شبكات اجتماعية مع الخارج أسهمت في استزلام السوق العراقية للبضاعة الأجنبية «الرديئة»، وإهمال التطوير الصناعي, والتصدي لقانون «التعرفة الجمركية» وبروز قضية «التمويل الأجنبي» كحاجزٍ منيعٍ أمام محاولات سن قانون ينظم شرعيَّة عمل الأحزاب السياسيَّة. وأوضح تمظهرات الزبونية السياسيَّة في العالم الثالث بشكل عام، توجد في النشاط الانتخابي، وبسطوة الرئيس على الأعضاء الحكوميين والحزبيين، إذ يتحول جهد هؤلاء لإرضاء ما يعتقدونه ولياً لصعودهم السياسي على حساب الخدمة 
العامة!؟.
بالمقارنة بين الصيغة الزبونيَّة السائدة في النظم السياسيَّة لدول العالم الثالث ونظيراتها في العالم الغربي, تقترب الأولى من الطابع «المافيوي»، في حين تتخذ في الغرب هيئة (لوبي أو جماعة الضغط), وتنضوي الأنساق (الطائفية) و(العشائرية) و(الأبوية) و(التبعية) و(الطفيلية) و(الفساد) في المحتوى الاستبدادي العالم ثالثي, بالمقابل تعّبر اللوبيات في الغرب الديمقراطي (عن الشبكة الكبيرة في العلاقات السياسية والاقتصادية والبيروقراطية المتماسكة بين صقور السلطات الثلاث, التنفيذية والتشريعية والقضائية, من جهة, وكبار المتعهدين والمقاولين وممثلي الشركات الكبيرة من جهة أخرى), عبر تبادل الخدمات والخبرات والمعلومات والصفقات والتعاقدات, ويقف خلف هذه العلاقات عددٌ كبيرٌ من الخبراء والباحثين الذين يعملون في مراكز وبحوث ودراسات متعددة, كما يتميز اللوبي بعلاقات وطيدة مع وسائل الإعلام والقوى والمراكز الاقتصاديَّة والماليَّة في العالم, والجماعات الضاغطة, ظاهرة ولّدها عصر الاحتكارات الرأسمالية والشركات متعددة الجنسيَّة والنزوع الى السيطرة والخصخصة وسلعنة الطبيعة.  يشبه الفساد والزبونية السياسية التؤام السيامي في الدول المنتقلة حديثاً من النظام المركزي الى نظام التعددية السياسية وحرية السوق, والزبونية كظاهرة سياسية لها جذر اجتماعي, تستدعي وسائل مكافحتها والتقليل من اضرارها, المطاردة في حواضنها الاجتماعية, باعتبار الزبونية تنم عن افراز لمسار كامل من التنشئة الاجتماعية التي تحاول أنْ تضفي المقبولية القانونية عليها, الأمر الذي يستدعي تغليب النمط العلائقي المدني والقانوني للدولة على حساب الأنماط القبلية والطائفية اللاعقلانية, وخلق الشعور الإيجابي لدى الفرد تجاه الدولة التي تؤدي الدور الحاسم في إدارة شؤونه, وفي العراق يعني النجاح في تحجيم الزبونية السياسية, منح الشرعية للنظام السياسي القائم، عبر إعادة السلطة للشعب, وتسيير أمور الناس والدولة بعقلية مدنية تؤمن بفطنة هؤلاء الناس ووعيهم, بدل واقع الحال الذي أحكم فيه سير العملية السياسية وتوابعها الحيوية والستراتيجية, في دائرة مفرغة, أهمل فيها الرأي العام بشكلٍ شبه تام, وبات الشغل الشاغل حفظ مصالح الطبقة الحاكمة عبر انتهاك حياد القضاء وتسييس البنية القبليَّة, والالتفاف المستمر على استحقاقات المواطنة.