الرمزيَّة الصوفيَّة في العتبات النصيَّة

ثقافة 2019/02/16
...

       أحمد الشطري
 
 
في روايته "موت صغير" الصادرة عن دار الساقي 2016 والفائزة بجائزة البوكر العربي 2017، يضعنا الروائي محمد حسن علوان امام مفارقة ذكية من خلال عنوان الرواية (موت صغير) ليجعل مخيلتنا تبحث عن الدلالة الرمزية للعنوان والعلاقة الغريبة بين الصفة والموصوف، هذا العنوان الصادم سيحفزنا بلا شك لقراءة الرواية والبحث في مسارات احداثها عمّا يمكن ان تكشف لنا دلالاته والمسوغات التي جعلت من الروائي ان يضفي على (الموت) صفة (صغير) وهو نوع من المفارقة الذكية، ربما يشكل مناصا جاذبا ومغريا للقارئ باعتبار ان احد وظائف المناص هو الاغراء وهو ما يمكن ان يقوده للبحث عن مدلول هذه الصفة وعلاقتها بالموصوف، سواء كان ذلك من خلال المتن السردي او مما يعثر عليه من مفاتيح تسهم في الكشف عن دلالته الرمزية. 
وكمدخل للرواية اختار الروائي قول ابن عربي (إلهي ما أحببتك وحدي، ولكن أحببتك وحدك). وقبل ان نتبيّن علاقة ابن عربي ومقولته بالرواية سنجد انفسنا امام علامة ارشادية تحيلنا الى عام 610هـ 1212م وفي اذربيجان تحديدا. اذن فنحن ازاء حكاية تتخذ من حادث تاريخي مسارا لها. وهو أسلوب ربما لقي رواجا لدى الكثير من الروائيين وخاصة في الفترة الاخيرة بما عرف نقديا (بالميتا تاريخية)، وما ان نتقدم في  قراءتنا حتى نكتشف ان محمد حسن علوان اتخذ من حياة ابن عربي الواقعية والمتخيلة متنا حكائيا لروايته، وهو ما يفسّر لنا الدلالة الارشادية الاولى لكلمة ابن عربي.
 
مئة مقولة لابن عربي
لقد استخدم محمد حسن علوان مئة مقولة لابن عربي، كل مقولة تمثل عتبة نصيّة لفصل تتفتح مدلولاتها من خلال ما يجري فيه من احداث، ويبدو ان استخدام هذا العدد جاء تماهيا مع الموروث الديني فقد جاء في بعض الآيات استخداما له (فأماته الله مئة عام) البقرة 259. (في كل سنبلة مئة حبة) البقرة 261. او جاء تماهيا مع رمزية هذا العدد وفق الفكر الصوفي وعند ابن عربي نفسه اذ يقسم نفوس الاولياء (العبادلة الباطنيين - والبالغ عددهم ثلاثمئة - الى ثلاثة اقسام (كل قسم مئة):
الاول: نفوس روحانية علوية. الثاني: نفوس روحانية وسطية. والثالث: نفوس روحانية سفلية. ينظر دلالات الارقام- د.خالد علي عباس- مجلة جامعة طيبة-السنة الخامسة 
عدد.8.
ومن الواضح ان لتلك المناصات وظائف متعددة سواء كانت وصفية او ايحائية او اغرائية. لا بدّ أن يعكس ما تحتها جانبا او جوانب مما وظفت لأجله. وفي رواية موت صغير كان ذلك التوظيف فعلا واعيا عكس مدى الانسجام بين محتوى النص ودلالة المناص وبذلك كان مستثمرا لوظائفه بشكل محكم سواء في الجانب الوصفي ام الاغرائي ام الدلالي.   كما قام محمد حسن علوان بتقسيم الرواية الى اثني عشر سفرا، ويبدو ان في هذا التقسيم اشارة لما يمثله هذا الرقم لدى الصوفيّة عامة ولدى ابن عربي خاصة، ويتضح ذلك من قول ابن عربي في كتابه الفتوحات المكية ج4: ( فأقطاب هذه الأمة اثنا عشر قطبا، عليهم مدار هذه الامة كما ان مدار العالم الجسمي والجسماني في الدنيا والآخرة على اثني عشر برجا) ص82، ولذا فإنّ الروائي جعل روايته في اثني عشر سفرا يدور عليها مدارها. وكأنّه يريد ان يوحي لنا ان روايته تتماهى مع حياة ابن عربي شكلا ومحتوى، وهي حقيقة تبدو جلية من خلال العنوان ببعده الرمزي سواء كانت تلك الرمزية في فضائها الصوفي ام في دلالاتها السميائية. اولا وثانيا من خلال البناء السردي للحكاية وتوظيف تلك المقولات بما تستبطنه من  مضامين كإشارات لأحداث الحكاية ووفق الفكر الصوفي فإنّ لكل اشارة دلالتها ورسالتها المشفرة التي تحتاج الى ذهنية عالية للوصول الى تلك الشفرات.   بنيت الرواية على ما تضمنته مخطوطة تحكي عن حياة ابن عربي وقد تنقلت هذه المخطوطة في اماكن وازمنة متفرقة  فكان كل مكان وزمان تظهر فيه المخطوطة له راو ضمني ينقل ما يجري من احداث عليه وعلى المخطوطة والاسباب التي جعلت المخطوطة تنتقل الى ذلك المكان، ورغم اننا لا نشعر بتعدد الرواة فجميعهم يتحدثون بصيغة (الانا) الا ان تباعد الفترات الزمنية هو الدال الوحيد على تعددية الاصوات الراوية.
 تبدأ رحلة المخطوطة من اذربيجان ثم تنتهي رحلتها في بيروت بيد طالبة دكتوراه بعد ان يبيعها اياها اخر حامل لها والذي خرج بها هاربا الى بيروت من مدينة حماة السورية بعد احداث 1982، ومن الواضح ان رحلة المخطوطة بين تلك الاماكن المتفرقة جاءت محاكاة لرحلة ابن عربي فانتهى المطاف بها في سورية حيث انتهى به المطاف ايضا. 
لقد امتلكت الرواية مقومات النجاح من خلال لغتها العالية والقدرة الفائقة على الامساك بخيوط الحدث الروائي والتمكن الواعي في خلق عوامل الجذب والامتاع للقارئ.