نعمه العبادي
فقه البريد
ورد في قواميس اللغة أن كلمة البريد بالأصل تطلق على الدَّابَّة التي تحمل الرسائل، وعلى الرسول المبعوث من جهة لأخرى، كما اطلقت على المسافة بين كلِّ منزلين من منازل الطريق، وفي الاصطلاح نظام يَخْتصُّ بنقل الرَّسائل والطُّرود وتبادلها بين طرفين أو أكثر، ويطلق على جميع الكتب والمذكرات والمطالعات واشكال الخطابات المختلفة بين الجهات الرسمية اصطلاح البريد، وفي الحقيقة ان الحاكي الاوضح والرسمي عن نشاط الدولة بمختلف مفاصلها هو البريد، والفقه هو العلم بالشيء والفهم له.
تختلف هذه المقاربة عما يسمى بـ (كتابات الخدمة)، وهي قواعد تنظيمية مستقة من أدبيات اللغة وقواعد الادارة وبعض الاجتهادات، تساعد على تحرير واجابة ومعاملة الخطابات الرسمية، وتركز على الشكل في معظم توجهاتها، وهي مختلفة من دولة لأخرى ومن زمن لآخر، كما انها تختلف عن تحليل الوثائق والمحررات المعمول به في المجالات الاستخبارية والاعلامية، وأيضا ليست معنية بقواعد تحليل المضمون والخطاب المستعملة في الادب والفلسفة ومجالات اخرى، بل هي محاولة جديدة ومختلفة، تقيم مستوى وواقع التعاطي والتعامل مع (البريد) في جميع قطاعاتنا الحكومية، وتحاول تقديم وجهة نظر تنطلق من فهم أعمق لفلسفة التعاطي مع البريد، ولتدارك الفجائع التي يعيشها هذا (الطلسم) المسمى
البريد.
وبناءً على هرمية نظامنا الديمقراطي الحالي، فإن مسار شؤون الدولة يبدأ من مقترحات مشاريع قوانين، التي ترفع الى البرلمان، والذي يحولها الى تشريعات باتة، ثم يعيدها لغرض تنفيذها عبر الجهات التنفيذية على شكل تعليمات وإجراءات وتطبيقات، وهكذا تنزل الامور الى انعكاس هذه القوانين على الجزئيات الصغيرة، والى جانب هذا المسار توجد قرارات مجلس الوزراء وتعليماته وكذلك نتاج السلطة القضائية والمؤسسات الاخرى.
تكمن الاشكالية الأولى في فقه البريد عند تحويل الرؤى الكلية (القوانين والتشريعات) إلى لوائح وتعليمات ثم إلى تطبيقات جزئية، حيث تتسع مساحة اختلاف الفهم والاجتهاد تدريجيا، ثم يزاحمها المزاج الشخصي للحلقات التنفيذية التي تتداول الامور، والنتيجة اننا امام صور مختلفة من التطبيق والاجراءات، تدعي كلها الاستناد إلى ذات الاصل مع انها تصل في اكثر من صورة إلى نقطة التضاد التام في صور تطبيقه وفهمه.
في العادة يتلقى الموظف الجديد في بعض القطاعات تدريباً أولياً على الاداريات وكتابات الخدمة، وتحرص قطاعات على ارسال موظيفها بدورات ادارية خلال سنوات الخدمة، إلا أن المحصلة الكلية عند النظر الى مجمل كتلة الموظفين بمختلف مستوياتهم، فإن هناك جهلا وقصورا كبيرا في فهم ومعرفة مجريات التدابير الادارية، ويشمل هذا التعميم درجات متقدمة من الوظيفة بما فيهم الوزراء والوكلاء.
تحكم الانماط السائدة، والصيغ الروتينية، وسيرة السلف، وسطوة الرئيس الاعلى، ورتابة العقول، على معظم النسق البريدي من حيث الفهم والتعامل وطريقة التنفيذ والاستجابة واعداد الردود، وتحديد نطاق التطبيق الذي يشمله مؤدى الوثيقة البريدية (كتاب، مطالعة، مذكرة، طلب شخصي،..)، إذ يتم الاحتجاج (رأساً) أمام اي محاولة فهم جديدة او طريقة مختلفة للتطبيق بأن المعمول به والمعهود خلاف ذلك، فالكثير من المسارات الادارية تعيش سلفية مقيتة اشد من السلفية الايديولوجية.
المحررات وثائق تنقل مرادات شفاهية من خلال صيغتها المكتوبة سواء كان المراد امراً منشأً جديداً او جواباً لأمر سابق او توضيحاً او توسعة او تضييقاً او تصحيحاً او تبديل امر وهكذا، والمهم فيها، انها تعكس هذا المراد بشكل واضح وصريح ومحدد غير قابل للتأويل والاجتهاد، ولا يثير اللبس والاشتباه، وهو التحدي الاكبر في فقه البريد، إذ يغرق الورق الحكومي بصيغ واشكال ومخاطبات ونماذج انشاء عجيبة غريبة سواء من حيث الشكل او المضمون، او تحديد الجهة المعينة، او تحديد الاجراء المطلوب، وهي الحلقة التي يبدأ منها التشتت والاشتباه، فمع صياغة مربكة او نص ملتبس او توجيه غير صحيح، تأتي حلقة الفهم المستتبع لهذا الالتباس وهي قصة ثانية سوف نعالجها في فقرة مستقلة من هذا المقال، وهذا الفهم ينتج الهامش الخطأ، الذي يزج النشاط الاداري والعملي للمرؤوسين في امور وعمل لا نتاج له، ولا ضرورة فيه، وربما خلاف المتطلب الحقيقي.
(الهامش) اصطلاح يتعلق به مصير وحياة الكثير من البشر، وتناط به مسؤولية تحديد الاجراء الصحيح، هو احد المشكلات العويصة التي يعاني منها بريدنا، فزخم البريد الكبير، والترهل الاداري، والبيروقراطية التي تضخم المراسلات، وانعدام فقه البريد، والاجتهادات الشخصية، والرغبة في احتكار السلطة والصلاحيات، تضع الحلقات العليا في الدولة امام اطنان من الورق في كل يوم، ومع قلة الخبرة، والسرعة، والاجتهادات، والوعي السطحي، وضغط السيرة المعهودة من الاجراءات، تجدنا أمام اشكال ونماذج من الهوامش التي تخرج البريد عن مقصده او توجهه بخلاف مضمونه او تفسره بطريقة مخطوءة او تعالجه بشكل غير صحيح، او تحيله الى الجهة غير المعنية او توسع رقعة الاجابة عليه من دون مبرر، او تطلب متطلبات غير ضرورية او غير قانونية او تضع المتلقي في حيرة من تحديد المطلوب.
نحن أزاء ترهل عظيم في حجم المراسلات، وتضخم غير مبرر في الكثير من الاجراءات، وضعف مقلق وخطير في الوعي الفني والاداري والقانوني الذي يحدد المتطلبات ويسير امور الدولة، وازمة اخلاقية في الشعور بالمسؤولية تجاه حاجات الناس ومتطلبات الدولة، وامام جهاز حكومي يعاني من خلل حقيقي وعميق في فهم ومعاملة مراسلات الدولة بجميع أشكالها بالطريقة الصحيحة والناجعة، الامر الذي يتطلب التأسيس بشكل علمي لفقه البريد والمراسلات الحكومية، والذي يشتغل على آليات فهم المضمون، وتحديد المقاصد، والتحرير على ضوء متطلبات الدولة الحقيقية، والذي بدوره يتطلب اعادة هيكلة للكثير من المؤسسات والجهات،.