رفيف الشيخلي
نحن كائنات اجتماعية، قبلنا ذلك أم رفضناه، شئناه أم أبيناه، نحن نحتاج إلى الإحساس باهتمام الآخر بنا، حتى لو مثلنا العكس، بل ربما تمثيل عدم الحاجة هو في واقع الأمر احتياج يصرخ بصمت، وما نحتاجه لا يكون فقط ماديا من قبيل العمل والعلاقات التجارية مهما كانت بسيطة، ولا فقط احتياجات أخلاقية كالاحترام
بل أيضا نحتاج إلى من يستمع الينا، من يقبل أن يسمعنا يشعرنا باهتمامه كيفما كان هذا الاهتمام، بقبوله، أما من يرفض، مهما كان الأسلوب، فذلك يشعرنا بشيء من الإبعاد والإقصاء، بشيء من الوحدة، يكفي أن نرى الناس في التجمعات، كل واحد يحاول أن يأخذ فرصته للحديث، الكل يبحث عن الأذن المستمعة لكلامه، فمن يستمع إلينا يشعرنا بوجودنا، حتى لو أنه فعل لأجل العكس، في حالات النقاش أو النزاع مثلا، حين يستمع إلينا الطرف المقابل، فإنه يعترف بنا بتصرفه ذاك، حتى أننا نجد أن الكثير من العبارات التي نقولها في كيفية تواصل الآخر معنا تفيد اهتمامنا الكبير بهذا الأمر، من قبيل لم يسمعني، لا يقبل الاستماع، لا يجيب، أو العكس حين نفرح بالآخر ونعبر أننا تحدثنا معه، مستمع جيد، أخبرت فلانا، كلها تفيد أن هذه الأمور مهمة لنا في التعبير عن مشاعرنا تجاه الآخرين. بل حتى في الأدب نجد الكثير من العبارات والنصوص التي تناولت الموضوع بشكل أو بآخر، فنجد الكاتب والشاعر المغربي طه عدنان، يعبر على لسان «دنيا» بطلة نصه المونودرامي الثاني عن افتقادها للتواصل مع أسرتها بقول ما معناه إنها كانت تسمع أمها تتحدث مع الجارات عنها، لكنها كانت تتمنى لو أنها تحدثت معها وليس عنها، وطبعا حين نفقد مثل هذا التواصل حتى مع الأسرة والأم سيسبب الكثير من الحزن، وربما بعض المشكلات بالنسبة للطفل الذي يعيش مثل هذه الظروف.
كما أننا نجد هذه العبارة في قصة «وحشة» للكاتب تشيخوف: «ألن يجد في هذه الآلاف واحدا يصغي إليه؟ ولكن الجموع تسرع دون أن تلاحظه أو تلاحظ وحشته.. وحشة هائلة لا حدود لها. لو أن صدر أيونا انفجر، وسالت منه الوحشة فربما أغرقت الدنيا كلها، ومع ذلك لا أحد يراها».
لكن ماذا عن الصمت والشخص الصموت؟ ألا يحتاج هو أيضا لأذن؟ ولماذا يعده أغلب الناس على أنه شخص غير اجتماعي؟، ألا يكون الصمت هو نوع من البوح؟، قد يكون من شدة الألم؟، فحين تكثر الضربات نشعر بنوع من الخدر، أو هو حالة يأس من إيجاد الأذن الصادقة ربما، كما تغني فيروز: لا تندهي ما في حدا، بابن مسكر والعشب غطى الدراج، وألا يعتبر ذلك محاولة للتأكد من رغبة الآخر في المعرفة؟ وإلا ما معنى ان نتحدث لشخص لا يستمع إلينا، أو لا ينتبه لما
نقوله؟.
للكاتب والشاعر والإعلامي المغربي ياسين عدنان عبارة جميلة تقول: «أبحثوا عنه في قلبه أبحثوا عنه في صمته».
يذكرني هذا برباعية صلاح جاهين:
«عيني رأت مولود على كتف أمه
يصرخ تهنن فين يصرخ تضمه
يصرخ تقول يا ابني ما تنطق كلام
ده اللي ما يتكلمش يكثر همه
عجبي»!
وهل يمكن أن نفكر بأن الكتاب، إنما كتبوا لمشاركة الآخر، أو نوعا من إيجاد العين المصغية؟ كما يقول الشاعر والكاتب المغربي الجميل سعد سرحان:
«محبة
ليس أن تقرأ بكثرة، بل أن تقرأ بمحبة».