المثقف العضوي ومعطيات العصر

آراء 2021/06/10
...

  عطية مسوح 
هل يمكن أن يكون المثقف في عصرنا مثقفاً عضوياً بالصيغة التي وضعها المفكر والفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد لنا من تحليل المفهوم الذي يعبر عنه مصطلح المثقف العضوي لدى غرامشي، ومعرفة دلالته العامة وتجلياته الخاصة التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، كما تختلف باختلاف طبيعة المثقف الشخصية. 
 
لقد دخل مصطلح «المثقّف العضويّ» مجال الأدبيّات الثقافيّة والسياسيّة في العقود الوسطى من القرن العشرين، وانتشر انتشاراً واسعاً بين المثقّفين، وأعلنت تبنّيه بعضُ الحركات السياسيّة اليساريّة، أو مثقفوها على الأقلّ، وكان لنشاط هؤلاء المثقّفين أثر مهم في ثقافة العالم بين أربعينيّات القرن العشرين 
وسبعينيّاته. 
جاء استخدام هذا المصطلح لدى غرامشي في سياق معالجته دورَ المثقّفين في النشاط التغييريّ، وفي توعية الناس وتعبئتهم لمواجهة الاستغلال الرأسماليّ، فقد توصّل إلى أنّ المثقّف لا يمكن أن يقوم بمهمّة الإسهام في ذلك إلاّ إذا ارتبط بقضيّة وحركة ثوريّة وصاغ مضامين خطابه الثقافيّ وفق توجّهاتها 
وأهدافها. 
ولكن، هل يعني ذلك أن يكون المثقّف العضويّ مجرّد منفّذ لسياسات تقرّرها قيادات تلك الحركات؟ وإذا كان هذا المثقّف قياديّاً – كما كان غرامشي نفسه – فهل يقوم مع زملائه القادة بوضع تلك السياسات بينما يكون مجال فعل المثقفين في الحركة هو جعل نشاطهم الإبداعيّ والفكريّ ترويجاً لتلك السياسات فقط؟ هل ينحصر الأمر ضمن هذه الحدود أو أنّ مصطلح المثقّف العضويّ يتضمّن بعداً آخر يجعل المثقّفين فاعلين  ومؤثّرين في السياسة مسهمين في رسمها وفي تحديد التوجّهات العامّة للحركة التي ينضمّون 
إليها؟
يبدو لي أنّ غرامشي (1937/1891) قد انطلق من تجربته الشخصيّة واستخلص منها رؤيته للمثقف ومهمته ودوره. فهو مثقف كبير، ربط القول بالعمل، ووضع ثقافته في خدمة قضية العدالة والاشتراكية، وأسهم في تأسيس حركة سياسيّة تتبنّى هذه القضيّة وهي الحزب الشيوعيّ الإيطالي (1921)، وسُجن أحدَ عشر عاماً في عهد موسوليني، وأطلق سراحه قبل وفاته 
بأيام. 
وفي السجن كتب هذا المثقف المناضل معظم مؤلّفاته، ونُشرت بعد وفاته.  
ومن يُنعم النظر في مصطلح «المثقف العضوي» يجد أن فحواه دعوة المثقف – وهو صاحب النزوع الإنسانيّ – إلى الارتباط بقضيّة وحركة تتبنى هذه القضيّة. ومن المؤكّد أنَ وجود مفكّر ومثقف من مستوى غرامشي في قيادة حركة ما هو بحدّ ذاته عامل جذب للمثقفين، ودليل أوّليّ على وجود بيئة سياسيّة تمكّنهم من العمل الفكريّ الداعم للقضيّة التي تناضل هذه الحركة من 
أجلها. 
لكنّ للمسألة جانباً آخر، وهو أنّ المثقف الذي يصبح «عضويّاً»، أي منتمياً إلى قضية وحركة، يجب أن يجد في هذه الحركة مجالاً واسعاً من حرية التفكير والتعبير والعمل، ليكون فاعلاً داخل الحركة وخارجها، سواء أكان على رأس الحركة مثقف مفكر مثل غرامشي أم لم 
يكن. 
وبهذا يكون لمصطلح المثقف العضوي جانبان متكاملان، أولهما أن يرتبط هذا المثقف – بإرادته الحرّة – بقضية وحركة، وثانيهما أن توفر له هذه الحركة المناخ الملائم للتفكير  والتعبير الحرّ عن الرأي في مختلف القضايا التي 
يتناولها.  
واستعراض تاريخ الحركات السياسيّة الثوريّة التغييريّة في القرن العشرين، يدلّ على وجود مشكلة تتصل بالجانب الثاني من الجانبين المذكورين، أي بتوفر حرّيّة التفكير والتعبير عن 
الرأي. 
فكل حركة سياسيّة، وبخاصّة الثوريّة التغييريّة, تسعى إلى تحقيق ما تسمّيه وحدة الإرادة والعمل، أي تسعى إلى أن تصبّ جهود أعضائها ومناصريها في تيّار واحد واتّجاه محدّد هو الذي ترسمه قياداتها، وتنظر إلى نشاط  أعضائها المثقفين والمفكّرين نظرة وظيفيّة مباشرة، أي ترغب في أن يكون ترويجاً للسياسة 
المقرّرة. 
وبطبيعة الحال فإنّ هذه النظرة ستضيّق هامش حرية التفكير  والتعبير في الحركة ووسائلها الإعلاميّة، وهذا ما جعل المثقف العضويّ ضعيف الفاعليّة في مجالات نشاط حركته، وغلّب الطابع الإيديولوجيّ  والإعلاميّ على المحتوى الفكريّ في كتابات المفكّرين. 
كان غرامشي مفكّراً وقائداً في الوقت ذاته, فلم يقع تحت تأثير التناقض «المفارقة» بين المقتضيات السياسيّة التنظيميّة «أي الالتزام» والمقتضيات الفكريّة الثقافيّة «أي حرّيّة التفكير والتعبير ونشر الرأي المختلف والحوار العلنيّ 
حوله». 
هذه المفارقة هي أهمّ ما يواجه مسألة ارتباط المثقف بقضيّة وحركة في زمننا، أي تحوّله من مثقّف إلى مثقّف عضويّ بالمحتوى الغرامشيّ. 
إنّ معالجة هذه المفارقة المشكلة هي إحدى نقاط الانطلاق لجعل مفهوم المثقف العضويّ مفهوماً معاصراً وواقعيّاً. 
فكيف يكون ذلك؟ هنا ستكثر الآراء وتتنوّع الأفكار، والحوار الجادّ هو ما يوصل إلى ما يمكن الأخذ به (مع استمرار البحث عن الأفضل). 
وقد تكون البداية من تحديث مفهوم الالتزام، بحيث يكون التزاماً باتّجاهات عامة من غير التزام بالتفاصيل، وتوفير هامش واسع لحرّيّة النشاط الفكريّ للمثقفين الكتّاب والمفكّرين المنتمين إلى الحركات السياسيّة، وقبول التنوّع في الآراء والرؤى داخل الحركة، وحقّ التعبير عن هذا التنوّع في منابرها الإعلاميّة، وغير ذلك ممّا يجعل المثقّف عضويّاً حقّاً، وفاعلاً حيث اختار أن 
يوجد. 
إنّ حرية التفكير والتعبير هي من أهمّ حقوق الإنسان الطبيعيّة، ولا يجوز أن يفقد المثقف هذا الحقّ حين يختار أن يكون مثقفاً 
عضويّاً.
كاتب وباحث من سورية