عبدالامير المجر
حين أخذت السيارة تهبط وترتفع في ملتويات الطريق الذي يشق تلالا صغيرة، كررت السؤال على السائق بجانبي؛ كم بقي بيننا وبين الموصل؟!. وقبل أن يجيبني استوت السيارة على سطح التل الأخير، فبانت لنا السيطرة الرئيسية عند مدخل المدينة التي اخذت تفرش جناحيها شيئا فشيئا. لم ازر الموصل من قبل، وحتى خدمتي العسكرية التي قاربت العقد من الزمن بخلت عليّ بـ «نقلة» لتلك المدينة التي تمثل احدى ايقونات التاريخ العراقي، ولعلها باتت الأشهر عالميا حين اصبحت مادة الاعلام الاولى بعد ان اجتاحتها في غفلة من الزمن خفافيش الظلام الداعشية العام 2014 ليكون هذا الحدث بمثابة التوأم المسخ لغزوة نادر شاه العام 1743 حيث حاصرها بأكثر من ثلاثمئة الف مقاتل وفتح عليها نيران 200 مدفع ولمدة اربعين يوما تقريبا، ملأت جسدها بالجراح لكنها لم تستسلم وظلت تقاوم ببسالة ابهرت الغزاة انفسهم، حتى طلب نادر شاه الصلح مع اهلها.. ولعل هذه الدروس القاسية هي من جعلت الموصل الرافد الأهم الذي يمد الجيش العراقي، بعد قيام الدولة العراقية الحديثة، بالضباط الأكفاء وبات هذا من بين
علاماتها.
لقد كنت مع الصديق الشاعر عمر السراي يومي 5 و6 حزيران 2021 في وفد يمثل الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لمقابلة محافظ نينوى بشأن أمور تخص فرع الإتحاد هناك، وحين دخلنا المدينة كنا على اتصال مع الزميل عبدالمنعم الامير رئيس فرح اتحاد نينوى، الذي كان ينتظرنا صحبة القاص ناظم علاوي في مكان اتفقنا عليه عند الساحل الايسر، اذ كان دخولنا من الساحل الأيمن الذي كانت وطأة حرب التحرير عليه هي الأقسى، لكني فوجئت حقا، اذ كنت اعتقد، معتمدا على ما ينقله الاعلام، ان الموصل عبارة عن اطلال وخرائب، فوجدتها بساحليها تكتظ بالحياة وقد بدت معالم الدمار أشبه بأوشام صغيرة متباعدة لم تشوه وجهها الجميل، ولم يثلم من حيويتها
ونظافتها.
بعد ان وضعنا اغراضنا في فندق الحدباء في الجزيرة السياحية، حيث حجزوا لنا هناك، كنت تواقا الى التجوال في المدينة لأتعرف الى معالمها التي صارت تشدني شيئا فشيئا وتبهرني لمسات الجمال والعمران الذي عرفت ان اغلبه نهض به القطاع الخاص، وكنا في المساء بسيارات الاصدقاء ادباء المحافظة الذين احتفوا بنا وكانوا مثالا للكرم، نتجول بين احياء الموصل التي زرنا معظمها وترجلنا في اكثر من مكان لنطلع على واقع الحياة عن قرب، وحضرنا جلسة ثقافية وبصعوبة افرد لنا الاصدقاء مكانا بين الحضور، كون القاعة مكتظة، وكان مساء الموصل مزدحما بالحياة البهيجة، حيث المطاعم الحديثة الكثيرة جدا والنظيفة جدا وكذلك الكازينوهات والمولات وكلها تغص بالزبائن، لتعلن ارادة شعب يعشق الحياة بعد ان ركل ظلام داعش، وصار يتطلع لحياة مدنية تليق بالموصل وتاريخها العريق، بوصفها احدى اكبر الحواضر في المنطقة وليس العراق وحده.. الأمن المستتب في الموصل جعل الحياة اكثر انطلاقا فلا سيطرات كثيرة تقطع الطرقات، ولامظاهر مسلحة ولا اي شيء يعكر المزاج، ما دفعني لأسأل الاصدقاء؛ احقا هذه الموصل التي لم ترنا منها بعض الفضائيات سوى اطلال وممرات كالحة؟! ولم انتظر الجواب منهم لأني كنت اتلقاه من المدينة نفسها.. الصديق الشاعر زهير بهنام بردى الذي التحق بالوفد دعانا الى زيارة بلدة الحمدانية «بغديدا» حيث يسكن، واعتذرنا لضيق الوقت، وراح يحدثنا عن عودة الحياة هناك بأفضل مما كانت عليه والى كل المدن والقصبات التي نالتها مخالب داعش
القذرة. لا شك ان الموصل لها همومها ايضا فالفاجعة التي مرت بها كبيرة وتركت أثرا في نفوس الناس، لاسيما الذين فقدوا أحبّة لهم او فقدوا منازلهم او هجّروا منها كأهلنا المسيحيين، وان التئام الجرح تماما يحتاج الى بعض الوقت، لكن الحياة يجب ان تستمر ويجب ايضا ان تكون بوتيرة اسرع لتعويض الزمن المهدور، الاّ ان تحرير نينوى بكل مدنها تزامن مع الأزمة الاقتصادية التي حالت دون تخصيصات مناسبة، الأمر الذي ابقى بعض المشاريع معلقة الى اليوم.. مسوخ داعش لم يكتفوا بما فعلوه من جرائم بحق البشر، فقاموا بجرائم بحق الحجر، اذ شاهدنا سلسلة عمارات عالية ومكتملة الهياكل لكنها بدت آيلة للسقوط، وعرفنا ان المجرمين قاموا بتفجير عدد من الدعامات الاساسية لكل عمارة وهكذا بات من المستحيل اكمالها، ولا بد من ان تهدّم كلها ليعاد بناؤها، وكذلك تهديمهم لبعض المعالم في المدينة، عدا ما فعلوه مع الآثار التي اهتز لها العالم، وكل هذا ترك جروحا في جسد المدنية التي عضّت عليها ونهضت لتعانق الحياة من جديد.
الموصل بيئة سياحية جاهزة ونعتقد انه بعد بضع سنين ستكون وجهة السياح العراقيين والعرب، كما كانت، بسبب طبيعتها الجميلة وثرائها التاريخي المتمثل بالمعالم الآثارية ومدنيّة شعبها ومعالمها الاخرى التي ستكون اكثر في المستقبل، لاسيما الفنادق الكبيرة، اذ وجدنا فندق «نينوى اوبروي» ما زال مهجورا مع انه غير متضرر كثيرا، لكننا على يقين من ان الموصل ستكون احدى ركائز النهوض العراقي نحو دولة مدنية قادمة.. وهذا ما خرجنا به من انطباع يلامس
اليقين!.