د. رسول محمد رسول
دعوني أتحدَّث عن تنوير إسلامي تميز به القرن الأول الهجري قبل أن يظهر التنوير في القرون التالية بالغرب الأوروبي عندما تجلى بفاعلية "العقل الفلسفي" الذي استقبلته الثقافة العربية الإسلامية حديثاً برحابة صدر متنوّع التلقي لكنها ثقافتنا العربية لم يؤثَر تنويرها حتى اللحظة في مجرى الإنسان والدولة والمجتمع والتاريخ بسبب هيمنة سرديات الخرافة والأساطير والخوف من العقل وقيمة حرية الإنسان. ومن جانبي، كنتُ ركّزت في أحدى مقالاتي على دلالات النور في الكلام الإلهي، فالتنوير الإلهي – بحسب (القرآن) - يستند إلى الآية (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (النور: 35)، بيد أن التنوير الإسلامي يبدو أكثر تفصيلاً - من جانب آخر - فيما لو استدرجنا مفهوم "العقل" الذي هو للإنسان دون غيره من بين المخلوقات قبل أن يتخذ - هذا العقل - طابعاً قوامه التأمُّل الفلسفي في خلال قرون هجرية تالية تألّق فيها الفيلسوف العربي بالمصالحة بين العقل والدين فأنتجَ خطابه في هذا المجال منتصراً للفلسفة وإن لم يغادر الأرض الدينية.
ومنذ وقت باكر، وفي المرحلة الأولى لشروق الإسلام دينياً، كشف الله عن دعوته للإنسان ليعرف طاقاته فسبحانه خلق الإنسان بتقويم حسن: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين: 4)، وكرّمه ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾ (الإسراء: 70)، وسخَّر له المُسخّرات ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ (الجاثية: 13)، وبسط له الأرض ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا﴾ (نوح: 13) لينعم بما فيها من طيبات، وحاجج الملائكة بأنه سبحانه خلق الإنسان ومنحه مزايا دون غيره مقارنة ببقية الخلق ﴿عَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة: 31) وتلك منزلة معرفية، ومن ثمَّ جعله خليفة له في الأرض: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30). وفي ضوء ذلك حثّ (الله) الناس على التعلّم باتباع ما هو أحسن مما تلقّاه عن ربه: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ (الزمر: 55)، الأمر الذي يستلزم التفكير والاختيار بإعمال الفهم والإدراك بالعقل وبقية مُمكنات
التفكير.
الفهم والعقل
إن تعلُّم الأسماء يقتضي آلة ذهنية لدى الإنسان هي "الفاهمة" = "الفهم"، وهو ما حثّت عليه النبوّة المحمديّة بلا تردُّد لكي يتداول الناس فاهمتهم، ومن ذلك فهم الناس للوحي أو "تعامل العقل مع الوحي في مظهره النصي لتبين المُُُُُراد الإلهي المضمر في ذلك المظهر" (عبد المجيد النجار: خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، ص 89)، ويصبح ذلك سبيلاً لهم حتى إن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) قال في سنة 14 هجرية لما وجّه عهده إلى أبي موسى الأشعري: الفَهْمَ الفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ..".
وكانت رسائل وعهود وخُطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، تحث على توظيف الفهم الإنساني في تصريف مفردات الحياة للظفر بداري الدنيا والآخرة، فكان يقول عن "العدل" - على سبيل المثال - إنه يتقوَّم "عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ؛ عَلَى غَائِصِ الْفَهْمِ، وغَوْرِ الْعِلْمِ، وزُهْرَةِ الْحُكْمِ، ورَسَاخَةِ الْحِلْمِ؛ فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ" (نهج البلاغة:
ص 473).
إن تسويق الفهم في الوعي الإنساني خلال تلك المرحلة هو الفتح الإنساني لموجودية الإنسان في الوجود، لا سيما عندما يترافق - ذلك الفتح - إعمال العقل الإنساني، فإذا "تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلام" (نهج البلاغة: ص 480)، وهذا إيذان واضح بربوع العقل الخضراء في ضبط هذر الكلام اليومي الاستهلاكي من عدمه، وكذلك ميزان الكلام في مواجهة التفكير حول أعقد المسائل من الناحية الدينية والفلسفية والفكرية والعلمية والتأويلية.
وكل ذلك، وأقصد الكلام الإلهي المتمثل بكتاب الله (القرآن)، وكذلك بالسنّة النبوية الشريفة، وبأحاديث الصحابة الأبرار، دلَّ على وجود تطلّع إلى أنسنة التفكير الديني في الحياة والوجود وبعبارة أخرى، كان ذلك يمثل "التعبير عن تسرُّب الإنسان في الشريعة النصية وانخراط الذاتي النشيط في المُنزَّل" الإلهي - بحسب تعبير الدكتور بنسالم حميش كما تبدّى بكتابه (في الإسلام الثقافي، ص 43) - ذلك التسرُّب الذي اجتهد به الحراك القرآني والنبوي والصحابي في القرن الأول الهجري. وهذا يعني، فيما يعني، أن الدين الإسلامي يكتنز قدراً هائلاً من المصالحة بينه والعقل الإنساني، وهو ما تنبّهت إليه النخب المثقفة التي نشأت في مطلع الرسالة الإسلامية تلك التي التفَّت حول الإسلام والنبوّة الرسولية المحمديّة بثقة رائقة.
وفي يومها، كان الاختلاف مع الدين الإسلامي والنبوّة المحمديّة سائراً إلى مديات مفتوحة، وتلك ظاهرة طبيعية؛ إذا كان الرسول محمد (ص) يواجه ذبذبات ورغبات متعدّدة من الرفض والاختلاف مع خطاب الرسالة الإسلامية ذكرتها الروايات والتواريخ؛ بحيث وصلت إلى حدّ الرغبة بالاعتداء على شخص الرسول نفسه كما همَّت بذلك أم جميل بنت حرب بن أمية - امرأة أبي لهب - عندما هاجت غرائزها يوماً وحملت الحجارة لترمي بها الرسول (ص) في مسجده، ناهيك عمّا كان يرومه اليهود الكارهون والنصارى والأعراب الذين لم يرغبوا بدعوة الإسلام، وكم حاكوا من الدسائس والمؤامرات؟
الدين والإنسان
وبالعودة إلى الحديث النبوي الشريف، كان المسلمون يسمعون النبي محمد (ص) يقول: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ومَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". وترانا نستشف من كلام هذا الحديث عطره السوسيولوجي، لكن هذا "الكُل" في "كُلُّكُمْ" يبقى هو "كُل إنساني" و"كُل مُجتمعي"، والرعاية هي رعاية الإنسان للإنسان كما هي رعاية الإنسان لحقوق الله، وهذا تخريج إنسي يمكن أن نعدّه جزءاً من التفكير التنويري الذي كانت تحبِّذه النبوّة المُحمديّة في حينها ليكون سُنَّة العمل والتداول في عيش الوجود عبر التضامن الإنساني بين الناس.
إننا نفهم التنوير في القرن الأول الهجري بهذا المعنى الذي لا يغادر الإسلام فيه الإنسان وإنْ كانت رسالة هذا الإسلام سماويّة منزّلة من الله الذي، ورغم مفارقته للعالم، يبقى في محايثة دائمة مع العالَم والإنسان والوجود في كُل آن ومصير
وغد آت.