التخصص الشكلاني في الكتابة الشعريَّة

ثقافة 2021/06/30
...

 عادل الصويري
 
يسأل الراحل علي شريعتي في كتابه (النباهة والاستحمار): هل التخصص أمرٌ لازم؟، ثم يجيب: نعم إنه أمرٌ لازم، إلا أنه في الوقت نفسه الذي نتخصص في فروع مختلفة يمكننا أن نحفظ كليتَنا الإنسانية.تذكرت هذا الكلام عن التخصص وأنا أتابع على وسائل التواصل الاجتماعي جدلاً شكلانياً بين شعراء حول ضرورة غريبة جداً صادرة عن انفعالات مزاجية أكثر منها إبداعية تتلخص في ضرورة التزام الشاعر بما عُرِفَ عنه من كتابة شعرية في شكل شعري دون غيره، فيُمنع على من عُرِفَ بأنه ينتمي لشكل الكتابة النثرية أن يكتبَ قصيدة شطرين، لأن ذلك جُرمٌ كفيلٌ بإخراجه من مِلّة (الانزياح) و (الموسيقى الداخلية). كذلك الشاعر على الضفة الفراهيدية في حال كتب نصوصاً من غير أن يلتفت لفروض الوزن والقافية فإنه يكون مثار تساؤلات، أو حتى استهجان من قبل (النثريين) أنفسهم، لأن أغلبهم يرى أن النثر يبدأ بقطيعة مع التراث الذي ينبغي أن يكون مادة للتسلية لا أكثر من وجهة نظرهم المتمردة، والمتماهية مع طريقة كتابة الشعر الأجنبي الذي له خصائصه التي لا نعرف عنها شيئاً بالضرورة، وهو التماهي الذي جسده الشاعر اللبناني (بول شاوول) الذي حاول تقليد طريقة كتابة الشاعر الفرنسي (كلود بيليو).إنَّ هذا النوع من الجدل غير المنتج حول ضرورة التخصص الشكلاني سيجعل الغاية الأساسية (الشعر) في حالة ارتباك وعدم توازن، بل يمكن له أن يجعل الشاعر يتكون في حيز محدود، وجهة واحدة تجعله بعيداً عن لذة استكشاف الجهات الأخرى. فحين ينزوي هذا في الشطرين، ويبتعد ذاك نثراً، وبينهما يقف التفعيليُّ حائراً، وفق قاعدة (كلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون)، فإنّ حقيقة الشعر بوصفه كشفاً يمكن أن تضيع، فيضيع ذلك الكائن الجميل في دوامة التخصص الانفعالي والمريب الذي يشبهه علي شريعتي (كبقرة افلاطون تماماً حين لمس أحد حافرها ولمس آخر قرنها ولمس الأخير ذنبها فكانت نتيجة مجموع اللمس لا تشعر بوجود حيوان).
والتركيز على التخصص الشكلاني لم يرسخه الشعراء في الحقيقة، فلو تتبعنا جذوره لوجدنا أن النقاد هم الذين نظّروا له حفاظاً على (مملكتهم النقدية) بعد أن صار الشعراء يُنظّرون لمنجزاتهم، ويطرحون الرؤى والتصورات، وهو ما اعتبره النقاد تعدياً على عرشهم بذريعة أن الكتابة في أكثر من حقل إبداعي ستجعلك أيها الشاعر متشظياً بين اشتراطات الكتابة في هذا الحقل أو ذاك.
ولو سألنا المتجادلين الشكلانيين عن سبب تنظيرهم لضرورة التخصص لن تحصل منهم على إجابات يمكن أن تخرج منها بفكرة مفيدة، بل على العكس ستترسخ لديك قناعة أنهم في خضم الانفعال يريدون الاشتباك وفق قول غراهام هيو: (يتجه أدب الماضي إلى دائرة الاختصاص الأكاديمي ويتجه الأدب الحالي إلى أن يصبح في دائرة الصحفي)، عندها سيبقى الشعر حائراً بين المتحجّر والمستهلك.إنَّ أكثر ما يحتاجه الشعر من الشاعر هي حالة الانسجام الداخلي، والتوقف عن الوسواس الشكلي الذي يلاحقه، فلا بأس أن يكون الشاعر أكثر من شخص في الفعل الكتابي، فيمكن له أن ينقذ عموده المتداعي بالماضوية بالنثر الذي ينعش فيه روح اللغة، ويهذب نزق النثر بحكمة الوزن والاتزان.
على الشاعر أن يؤمن أنه يتعاطى مع قيم الجمال، وهذه القيم تنتعش بملامسة الأحاسيس بعيداً عن شكل الإحساس إن كان مربعاً أو دائرياً، أفقياً أو عمودياً، وأن يعي تماماً أنه بانتقاله من شكل شعري إلى آخر إنما هو يطلق فراشاته في ذات الحقل وألا يرى نفسه منتقلا من النجارة إلى
 الخياطة.