كتابة الحياة

ثقافة 2021/06/30
...

لؤي حمزة عبّاس
 

مثلما تشكل الأحداث الكبرى انعطافات في مسيرة البشرية، تشكّل أحياناً لحظات فاصلة في حياة الأفراد وتواريخهم الشخصية، وهو ما حدث مع الدكتور شجاع العاني الذي دعته ظروف وباء كورونا إلى تحقيق أحد أحلامه القديمة في تأليف كتاب (أصداء من الماضي)، والحديث عن تجاربه الشخصية التي غالباً ما تواشجت مع حركة الثقافة العراقية، إنها، إذن، كتابة الحياة ومن أجلها في واحدة من أكثر لحظاتها تهديداً، اللحظة التي منحت الذاكرة ضوءاً لتستعيد ما يمكنها استعادته من مجرى التجارب، لتكون الذكرى المستعادة باباً للخروج من ضيق المرض إلى سعة الحياة التي تتضافر فيها التجارب الاجتماعية مع التجارب الثقافية، تغذي كلٌّ منهما الأخرى وتزيد حضورها قوةً وثراءً. إن باب الدار المصنوع من خشب، في الاستعادة الأولى، المغلّف بالصفيح، الذي يطل على الصحراء، يحقق دوراً في استعادة ما حدث وانتهى ولا سبيل لاستعادته، إنه، بجملة أدق، باب الذاكرة الذي ينغلق على لقى الطفولة ومسراتها البعيدة، على الرغم من الحضور الشحيح للطفولة، وغياب الحديث عن أثرها في بناء شخصية الكاتب وتوجيه وعيه، مثلما ينغلق على تجارب الشباب وبواكير الوعي الأولى، وهو باب الفردوس المفقود الذي يوصد أمام سعادات الطفولة، لكنها تطل من بعيد متحدثة عن الغزال الصغير، هدية الأب لابنه، مثلما تتحدث عن (صديقة وجوهرة) ابنتي العمة اللتين ترعيان الطفل وتشرقان مثل نجمتين في سماء ذاكرته، قبل أن ينتقل لاستعادة وقائع سريعة يحضر فيها مثقفون عراقيون مثل سركون بولص، وفخري كريم، وفؤاد التكرلي، ومحمد خضير، وأسماء أخرى تُتبين معها طبيعة حضور المؤلف في المشهد اليومي للثقافة العراقية، ومن بين أهم استعادات الكتاب، بتصوري، استعادة غائب طعمة فرمان أثناء رحلة د.شجاع العلاجية لموسكو، لما حملته من تفصيلات تمنح غائب حضوراً انسانياً يضاف إلى حضوره الإبداعي، من موسكو ينتقل الحديث لأصدقاء القاهرة في السبعينيات خلال دراسة المؤلف الماجستير في جامعة عين شمس، لنصادف مقطعاً عرضياً من حياة الأدباء الشبان ونمرّ على ظروف حياتهم ومواقفهم، فقد كانوا «فقراء مدقعين لا يملكون قوت يومهم ولكنهم كانوا مناضلين أشداء رفضوا الانتماء إلى الاتحاد الاشتراكي فحرمهم نظام عبد الناصر من الوظيفة والعمل» (ص 54)، ويعود بعد حديثين عن الطبيب العراقي ربيع توما وعبد الوهاب البياتي، ليكمل حديثه عن القاهرة وأناسها تحت عنوان (المعذبون في الأرض أو أناس القاع في القاهرة) ليبدو الهمُّ الانساني واضحاً ويتخذ موضوع الفقر وغياب العدالة الاجتماعية جوهر حديث المؤلف عن تجربته القاهرية، وبعد عدد من الاستعادات المتفرقة يعود المؤلف إلى مرحلة الصبا عوداً خاطفاً مستعيداً بعض تجاربها بما يؤكد غياب التخطيط عن الكتاب، فهو أقرب ما يكون إلى بقع الضوء السريعة التي تلقيها الذاكرة بغير انتظام على الماضي، إن الكتاب بصورته الراهنة يمثل تمريناً على كتابة السيرة ومحاولة لتدوين ما مضى، وإن لم يُبت بانتظامه تحت نوع محدّد، فمثلما كانت (السيرة) تحديداً إجناسياً للكتاب نجد (المذكرات) تحديداً ثانياً على الغلاف، بما يضعف انتساب الكتاب لأيٍّ منهما، فضلا عن خلوّه من وقفات التأمل التي تكون عادة خلاصة الوعي وإضاءة التجربة، ولو أعد بما يكفي من الوقت بعيداً عن مؤثرات المرض لأضاف الكثير إلى حقل الكتابة السيرية في الأدب العراقي.