الدين والكرامة الإنسانية

ثقافة 2021/07/04
...

 د. عبدالجبار الرفاعي
 
لا يمكن أن نفهمَ الدينَ قبلَ أن نفهمَ الإنسانَ أولًا، وحاجةَ الإنسان لمعنى لحياته، وحاجتَه للكرامة والمساوة والحرية. إعادةُ تعريف الإنسان هي المدخلُ الصحيح لإعادةِ تعريف الدين وكيفيةِ فهمه وتفسيرِ نصوصه، بالشكل الذي يصير فيه الدينُ مُلهِمًا للعيش في أفق المعنى.
في ضوء فهمنا للإنسان نتحدّث عن حاجته العميقة للدين الذي يفرض حضورَه في كلِّ عصرٍ مهما اشتدّت مناهضتُه ورفضُه، ربما يحتجب الدينُ مؤقتًا إلا أنه لن يختفي من الحياة.
‏  لم أرَ ما هو أشدُّ أثرًا ‏من الدين في حياة الفرد والمجتمع. ‏ولم أرَ مَنْ يمتلك كلَّ هذا الحضور الواسع والتأثير الهائل كالدين، وتظلّ دراستُه العلمية وتفسيُر تعبيراته المتنوّعة منسيةً في مؤسّسات التربية والتعليم العالي والثقافة والإعلام في بلادنا. الدينُ يتغلغلُ في كلِّ شيء في حياتنا بصورة ظاهرة وخفية، كلُّ محاولةٍ لإعادةِ البناء التربوي والتعليمي، وإعادةِ بناء مؤسّسات الدولة والمجتمع لا تبدأ بإعادةِ تعريف الإنسان، وإعادةِ تعريف الدين، وبناءِ فهمٍ جديد لنصوصه، تموتُ لحظةَ ولادتها. 
الدينُ مكونٌ عميق لماضينا وحاضرنا، متغلغلٌ بكلِّ شيء في حياتنا، لا يتحقّق فصلُ الدين أو وصلُه بحياتنا بقرارٍ نتخذُه، أو رغبةٍ عابرة، أو تذمّرِ البعض وانزعاجِهم من ممارسات مُستهجَنة تتخذ من الدين غطاءً لها، ومن اسم الله لافتةً تخدعُ الناسَ بها. يتعذّر طردُ الدين من حياة الناس، مهما أساء له أولئك الذين يتخذونه ذريعةً لسلوكهم المتوحش. الدينُ مكونٌ أساسي في الهويةِ، والبنية اللاواعية في ذهن الفرد وثقافة الجماعة.  
 قراءةُ نصوص الدين برؤيةٍ تنتمي للتراث أهمُّ أسباب انسداد الآفاق المضيئة لفهم الدين، وتعطيل حضوره الإيجابي الخلّاق في حياتنا. يفرض الواقعُ إعادةَ تعريف الدين وقراءةَ نصوصه برؤيةٍ تنتمي إلى عالَمنا، كي تنتج المعنى الديني المتناغم مع إيقاعِ حياتنا ومتغيراتها المتواصلة.
  أخفقت مشاريعُ ودعواتُ القطع الجذري مع التراث، ولم توصلنا إلى أية محطة لبناء الفرد والمجتمع والدولة. الطريقُ الصحيح هو دراسةُ التراث دراسةً علمية معمّقة، والتوغلُ في اكتشاف بنيته التحتية ورؤيته للعالَم في ضوء منطق العلوم والمعارف الحديثة، ومغادرةُ ما هو ميّت ومُميت فيه. 
كتاباتُنا المنشورة عن الدين تنويعاتٌ لرؤيةٍ واحدة، رؤيةٌ تحاول أن تتعرّف على الدين عبر اكتشافِ الإنسانِ، وتميّزِه عن غيره من الكائنات في الأرض بحاجتِه المزمنة للدين، ووجودِ كلِّ شيءٍ من أجل الإنسان بوصفه الغايةَ، لأنه خليفةُ الله في الأرض. 
الإنسانُ غايةُ الدين،‏ كلُّ دينٍ لا تكون غايتُه الإنسانَ ليس دينًا إنسانيًا. جوهرُ إنسانيَّة الدين حمايةُ الكرامة، ورفضُ كلَّ أشكال التمييز بينهم.‏ كلُّ دين لا يحمي كرامةَ الإنسانِ ويصونُها ليس ‏إنسانيًا. الإنسانُ وكرامتُه وسكينتُه وطمأنينتُه وإسعادُه غايةُ ما ينشدُه الدين.    
الكرامةُ قيمةٌ للفرد، تبدأ الكرامةُ بالفرد لتنتهي بكرامة الأمة، لا كرامةَ لأمة بلا كرامة لأفرادها. إن انتهاكَ كرامةِ أي كائن بشري هو انتهاكٌ يطالُ كرامةَ غيره من البشر أيضًا. الكرامةُ قيمةٌ كونيةٌ، لكلِّ انسان نصابُه فيها، لذلك يفرضُ الضميرُ الأخلاقي على الكلِّ حمايتها، كلٌّ حسب موقعه، ووفقًا لامكاناته وقدراته.
المعيارُ الكلّي لاختبار إنسانيّة أيّ دينٍ هو كيفيةُ تعاطيه وإعلائه للكرامة الإنسانيّة، والموقعُ الذي تحتلّه الكرامةُ في منظومة القيم لديه. إنسانيّةُ الدين تلخّصها نظرتُه للكرامة بوصفها القيمةَ التي تستحضر كلَّ قيمةٍ إنسانيّة، قيمةٍ تتسع لكلِّ الحقوق الأساسية، وتضع الحريةَ غايةً تتطلّع لاستردادها على الدوام كاملةً غيرَ منقوصة، والخلاصُ في تعاليمها وشريعتها من أيّة محاولةٍ لتسويغ العبودية المعلنة أو المقنَّعة، والإكراهية أو الطوعية. الكرامةُ قيمةٌ للفرد، تبدأ الكرامةُ بالفرد لتنتهي بكرامة الأمة، لا كرامةَ لأمة بلا كرامة لأفرادها. إن انتهاكَ كرامةِ أي كائن بشري هو انتهاكٌ يطالُ كرامةَ غيره من البشر أيضًا. الكرامةُ قيمةٌ كونيةٌ، لكلِّ انسان نصابُه فيها، لذلك يفرضُ الضميرُ الأخلاقي على الكلِّ حمايتها،كلٌّ حسب موقعه، ووفقًا لامكاناته وقدراته.
الدينُ حياةٌ في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الكائن البشري الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية. هذا هو فهمنا للدين الذي يُعبِّرُ عن هشاشة الكائن البشري، وقلقِه الوجودي وألمِه، وطبيعتِه بوصفها ملتقى الأضداد، وحاجةِ وجوده الفقير للاتصال بوجود الحقّ الغني بذاته. على هذا الفهم يتحدّدُ ما ينشده الدينُ في حياة الفرد والجماعة. إنه فهمٌ يحضرُ فيه عالمُ الغيب كما يصوّره القرآنُ الكريم مثلما يحضرُ عالمُ الشهادة، ويُفسِّر حاجةَ الإنسان العميقة للإيمان بالله للخلاص من الاغتراب الوجودي.
أعتمدُ الفهمَ المعنوي للدين، والتفسيرَ الرحماني الأخلاقي للقرآن الكريم، واستخلاصَ المضمون الإنساني الأخلاقي في الأحاديث والأخبار. إنسانُ اليوم يفتقر لتديّن عقلاني أخلاقي رحماني ينقذه، لأنه يعيش في عالَم يضمحل فيه معنى كلِّ شيء في حياته، عالَمٌ تزدادُ فيه كآبتُه، ويشتدُّ اغترابُه. 
 تظلُّ الأفكارُ في هذا الكتاب وغيره تحتَ سقف النقد العلمي، لأنها تعكس رؤيتي للدينِ وكيفيةِ قراءة نصوصه. لا قطيعةَ فيه وغيره من أعمالي مع التراث، إلا في حدود ما هو ميّتٌ ومميتٌ فيه. التجديدُ البنّاء يتأسّس على فهمٍ علمي للتراث، واستيعابٍ نقديّ للمعارف اليوم.
قوةُ الفكرة لا تكفي وحدَها لتطبيقها، مالم تتبنّاها سلطةٌ تفرض حضورَها. ظهرت أفكارٌ منطقية ذكية في مختلف العصور لكنها أخفقت في أن تطبع بصمتها في تاريخ الفكر، لافتقارها إلى جماعة تتبناها وتُبشِّر بها، وسلطةٍ تحميها. ولبثت بعضُ المعتقدات، كالمانوية وغيرها، تتحكّمُ في الضمير الديني لكثير من الناس عدةَ قرون، لكنها غادرت الحياةَ مُكرَهةً بفعل سلطةٍ صارمةٍ قهرتها.
يعلّمُنا التاريخُ في عصوره الماضية، وتتحدّث لنا نشأةُ الأفكار والمعتقدات والأيديولوجيات في العصر الحديث، بأنه مهما كانت عقلانيةُ الفكرة ومنطقيتُها ورصانةُ حججها، فإنها لا تكفي وحدها لتمكينها، وغالبًا لا تجد الفكرةُ طريقَها للواقع بلا سلطةٍ تتبنّاها وقوةٍ تفرضها. 
  في تاريخنا اندثر الاعتزالُ ولبث نائمًا حتى اليوم، وسيظلّ قابعًا في الكتب، على الرغم من اتفاق الباحثين المتخصصين على عقلانيتِه وتماسكِ حججه، وبموازاته ترسّخت وتمدّدت الحنبلية، على الرغم من تشديدِها على مرجعية الأخبار والأحاديث، وفهمِها الحرفي للنصوص، وانغلاقِها الحاد، وشحّةِ حضورِ العقل فيها.
ليست قوةُ الفكرة وتعبيرُها عن الواقع هو الذي يكفلُ شيوعَها وحضورها. بعضُ الكتّاب اتخذتهم جماعاتٌ يسارية وقومية وأصولية مرجعيات لها، ففرضت كتاباتُهم حضورَها بقوة، وإن كانت هذه الكتاباتُ مبسطةً هشة تفتقرُ إلى أي مضمون فكري رصين، ويدثرُها ركامُ شعارات تُذكي العواطفَ وتثيرُ المشاعر. 
  لا يُنكَرُ أن بعضَ الأفكار العظيمة تظلّ حيةً في ضمير التاريخ ولن تندثر، غير أن حضورَها النظري شيء، وتمكينَها في الواقع شيءٌ آخر، التمكينُ لا يتحقّق بلا تجنيدِ قوةٍ تفرضها. 
  يظل التجديدُ في الدين غريبًا مادام يتحدثُ لغةً لا تشبه لغةَ الجماعات الدينية، ولا يتناغمُ وايقاع السلطات، ولا يستسلمُ لشموليتها، ولا يجدُ مَنْ يتبناه من ذوي القوة والثروة.