حقوق لا تُعطى.. وهبات تُلغى أدباء ومثقفون لا يأمنون مبيت الغد

ثقافة 2021/07/05
...

  البصرة: صفاء ذياب
 
لم يكن الشاعر العراقي كاظم الحجاج أوّل من تهدّد بأن يخرج من بيتٍ وهبته الدولة له، ولم يكن عقيل علي آخر الشعراء الذين ماتوا على أرصفة بغداد، ولم يكن هادي السيد نهاية مأساة أدباء وفنانين عراقيين لم يضمنوا سكناً أو عشاءً لأولادهم، بل لدينا تاريخ طويل من تشرّد أدباء ومثقفين على مدى تاريخ الثقافة العراقية، وهذا يرجع لأسباب عدّة، ليس أوّلها لا وجود لقانون يضمن لهؤلاء حق المسكن والمأكل والحياة الكريمة، وثانيها أن النقابات المهنية، ومن ضمنها اتحاد الأدباء وجمعية الفنانين، لا تمويل لها من الدولة، وثالثها لم يفكر أحد، على مرِّ السياسات العراقية برسم وضع خاص للنخب العراقية، فضلاً عن أسباب كثيرة أخرى.
وما حدث للشاعر كاظم الحجاج قبل أيام حين أنذرته شركة الموانئ العراقية بوجود إخلاء منزله التابع للموانئ خلال ثلاثة أيام خير دليل على ذلك، على الرغم من توقيعه عقداً للسكن لمدة عشر سنوات من قبل وزير النقل السابق كاظم فنجان الحمامي، ولولا تدخل رئيس الوزراء ووزير الثقافة، لكان الحجاج بلا مأوى. هذا فضلاً عن أن اتحاد الأدباء قدّم ملفات أعضائه لأكثر من مرة في سبيل الحصول على قطع أراضٍ لهم أسوةً بالصحفيين، لكن لم يحدث شيء حتى اليوم.
فما الذي على الدولة العراقية فعله تجاه هذه النخب التي تمثل العقل والفكر العراقي؟.
 
 
ثورة قوانين
يؤكد الشاعر عمر السراي، مسؤول العلاقات الثقافية والإعلام في اتحاد الأدباء، أنّه من الضروري جداً أن توفّر الدولة للشرائح المتعددة في المجتمع ما يؤمّن حياتها ومعيشتها، وهذا الأمر ليس دعوة لفرض طبقية معينة أو تفضيل فئة على فئة، إنّما في المجتمعات والتنظيمات الحديثة كلّها، ثمّة شرائح تمثّل بجهدها وفكرها منطقة صناعة الرأي والمفاخر الوطنية، ما يقتضي منحها قدرة على تأمين معيشتها وسكنها اللائقين، فالمشروع الثقافي بصورة عامة يحتاج إلى رصد ودعم للإتيان بالثمار الجيدة، ولضمان عدم تحويل النتاجات الجمالية إلى سلعة تجارية.
مضيفاً: طالب اتحادنا لمرّات عدّة بقوانين يجب تشريعها، ونادى الجهات المعنية، وكاتبها، ومن أهمها، وجود قطع أراضٍ وتفعيل التفرّغ الإبداعي، والضمان الصحي، وتوفير الدعم للمطبوعات والمنشورات، وحماية الكاتب، وشموله بالتخفيض والحسم. إلّا أنَّ معالجات الجهاز الحكومي كانت ومازالت مرتبطة بالقاعدة القانونية المشرّعة، التي هي نفسها المعرقل الأساس لكل ما يمكن تحقيقه من منجزات على مستوى هذه الحقوق.. لذا ينبغي على الدولة حكومةً وبرلماناً أن تعي أنَّ الثورة على القوانين يجب أن تسبق ثورة الشعب الذي لا يعاني من تراكم الشخصيات الفاشلة في الحكم فحسب، بل يعاني من تراكم القوانين الجائرة القامعة للتطور.
 
القوى الناعمة
في حين يبين الشاعر الدكتور عارف الساعدي، مدير عام دار الشؤون الثقافية، أن المسكن أحد أبسط الحقوق التي كفلها الدستور لكل عراقي، ولا فرق بين شاعر أو غير ذلك، الكل سواسية، ولكن هناك أشياء تحتفي بها الأمم وتفخر، ونرى كيف أنَّ بيوت الأدباء الكبار والفنانين المهمين تتحوّل إلى متاحف يزورها الناس وتصبح قبلة للسائحين بعد سنوات من رحيل ذلك الشخص المؤثر، والنماذج كثيرة من شكسبير إلى ماركيز إلى نجيب محفوظ إلى كبار الأدباء الذين أصبحت بيوتهم قبلة، إزاء هذه الرؤية كيف يمكن أن نطلب من بيت الشاعر أن يتحوّل إلى متحف وهو لا يملك بيتاً بالأساس، أليس الأولى أن يضمن له وطناً صغيراً له ولعياله ومن ثم نطالب الدولة أن تحوّل تلك البيوت إلى متاحف، لهذا يتوجب على المؤسسات الرسمية تأمين السكن للجميع أولاً والالتفات بشكل جاد وليس إعلامياً فقط إلى رعاية الأدباء والفنانين في حمايتهم وتأمين سكن يليق بهم لأنّهم بالنتيجة واجهة البلد التي ستبقى، ومن يعترض على ذلك نستطيع أن نوجّه اعتراضه بالأراضي التي توزّع لكبار الضباط والمسؤولين الذين تنعّموا سابقاً وحالياً بالامتيازات والأراضي، ولم نعترض على ذلك، لأنّهم يؤدّون مهمّة تخدم البلد، أمّا الأدباء 
والفنانون فمهمتهم لا تقل أهميّة عن العسكر والأمن، هم أصحاب القوى الناعمة الذين يشكّلون وجه البلد الحضاري.
 
صوت الاعتدال
يرى الدكتور علي عبد الهادي المرهج أنه كان من المفروض أن تعمل الدولة على ضمان حق الإنسان في العيش بكرامة لاسيما ونحن في العراق المعروف بخيراته التي نهبها الفاسدون، وتأمين السكن هو من الحقوق للمواطن على الدولة، وأرض العراق واسعة، تحتاج فقط إلى تخطيط سليم واستثمار واعٍ. إذا كان هذا حق المواطن البسيط على الدولة، فكيف إذا كان إذا كان شخصية ثقافية أو أكاديمية لا تملك بيتاً!.
ويضيف المرهج: عملت نقابة الصحفيين على تحصيل هذا الحق، وقد منحتهم الحكومة خوفاً منهم لأنهم المسيطرون على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية، لذا اتقت الحكومة ومنحتهم أراضي في أماكن جيدة، بينما حاول اتحاد الأدباء الحصول على هذا الحق للمثقفين، وعلى الرغم من وعد الحكومة لهم بذلك، لكنها لم تفِ بوعدها لأنَّ صوت الأديب والمثقف صوت الاعتدال والتعقل الذي لا تخشاه الحكومة. مبيناً أن نتاج المثقف نتاج فردي، وإبداعه فردي، لهذا نجدها مطمئنة ولا تخشى ارتفاع أصواتهم! ولولا وجود وسائل التواصل الاجتماعي وتفاعل الناس مع الحدث الذي تعرض له الشاعر كاظم الحجاج لما تحرّكت الحكومة، وإلّا ما معنى أنّها منحته البيت لمدة عشر سنوات وتطالبه بعض أجهزتها بالخروج من البيت وتسليمه، وحينما تشتعل وسائل التواصل الاجتماعي كل الأطراف الحكومية تنكر علاقتها بالموضوع!.
 
حقوق وقوانين
ويقترح الباحث الدكتور محمد عطوان، أنه يمكن للقائمين على القرار الإداري في العراق تمليك أي شخص عراقي يرونه مبدعاً ما يستحقُ من السكن والإعالة، ويتم له ذلك بامتنان كبير، شريطة أن يكون هذا القرار متوافقاً مع القوانين الإدارية. 
ولعلاقة ذلك بالمبدعين، فإنَّ وزارة الثقافة والسياحة والآثار على سبيل الحصر تستطيع أن تصنع ذلك الصنيع من خلال صرف أموالها المتحصلة من الاستثمارات التي بحوزتها في تشييد مجمعات سكنية للمبدعين. ورئيس الجمهورية بما يمتلكه من صلاحيات مالية أيضاً يملك أن يقترح تبويباً يدعم من خلاله شمول المبدعين بالسكن. والأثرياء والتجّار الكبار خارج الحكومة يملكون أيضاً حق تحويل كثير من الأنشطة الخيرية لخدمة النشاط الثقافي ومنها إيواء المبدعين. 
لكن ليس من حق أيّة وزارة ليست معنية بالثقافة والمثقفين تقنياً وإدارياً تمليك أرضٍ أو تأجيرها لشاعر أو فيلسوف مهما كانت آثاره جليلة، فهذا يتطلّب قانوناً يلائم الواقعة، ولا أظن أنَّ وزارة النقل تملك مثل هذا 
القانون. 
لقد اجتهد وزير النقل لأنّه كان يعتقد بإمكانية صنع ذلك، ولكن نسي أو تناسى أنَّ التمليك والاستئجار من حصة منتسبي وزارته، وأنَّ كاظم الحجاج لم يكن من منتسبيها.. ما عدا ذلك فمن حق المثقفين والمحبين للشاعر أن ينادوا له ويطالبوا بتمليكه شيراتون أو قصراً أو قصرين من قصور صدام الرئاسية.
 
أمزجة
ويبين القاص جابر خليفة جابر، عضو البرلمان السابق، أن الدول المتقدمة غالباً ما تهتم بمبدعيها ولاسيّما الأدباء والفنانين وتسنُّ القوانين والتشريعات لتضمن لهم حياة كريمة وأجواء مناسبة ليتفرغوا للإبداع في ظروف محفّزة ومثالية، وهذا لا يتحقّق إلّا بدعمهم مادياً ومعنوياً بقوّة القانون وليس عبر أعطيات ومكارم يتفضّل بها ساسة وفقاً لمزاجاتهم أو مصالحهم الانتخابية والدعائية، فإن التعامل بهذه الطريقة الفردية العشوائية غير المنظمة بقانون وتشريعات ملزمة للدولة مع المبدعين العراقيين سلوك أقل ما يوصف به هو سلوك رسمي متخلّف، لذا على الفعاليات الثقافية ومن يرتقي لمستواها من الفعاليات السياسية والاجتماعية الضغط لسن قوانين تحمي المبدع وتوفّر له الأجواء الملائمة في حياته وتحفظ تراثه ومنجزه من الضياع والسرقة من بعد رحيله، هي دعوة متكررة لفتح ملف الثقافة ورفع شعار فاعل يقول إن الثقافة هي الحل لأنَّها تعزّز كل ما هو صحيح ونافع من الافكار والعقائد وتنبذ المتراجع والمتخلف والظلامي منها.
ضمان الغد
وينهي الدكتور سعد التميمي الحديث معنا، بقوله إنه من المؤسف أن ترى إحدى مؤسسات الدولة تنذر شاعراً مبدعاً مثّل العراق في المحافل 
الدولية، بدلاً من توفير السكن الكريم الذي يحفظ كرامته، وإذا كانت 
ردّة فعل الأدباء أفراداً ومنظماتٍ عبّرت عن مواقف مبدئية تنادي فيها ضرورة إنصاف شريحة الأدباء والفنانين، فإنَّ على الدولة ومؤسساتها أن 
تفكّر بتوفير السكن الملائم  لهذه الشريحة حتى يتفرّغوا لأداء رسالتهم الإبداعية والارتقاء بالوعي الثقافي والمعرفي للمجتمع لما تمثّله هذه الشريحة من حضور فاعل في المحافل الثقافية داخل العراق 
وخارجه.
فعلى الرغم من المبادرة السريعة من قبل السيد رئيس الوزراء 
والسيد وزير الثقافة في الاتصال بالشاعر وإلغاء الإنذار، والتوجيه بتوفير قطعة أرض له ومنحه قرضاً لبنائها، إلا أنَّ هذا الحل فردي لا يشمل الأدباء والفنانين جميعاً، لذا كان على الدولة أن تبادر بتخصيص قطع 
أراضٍ للأدباء والفنانين أسوة بالصحفيين، وتقديم التسهيلات اللازمة لإنجاز عملية البناء كي لا يتكرّر ما حصل مع الشاعر كاظم الحجاج.