عدنان الصائغ: الشعر باقٍ ببقاء الحياة.. هو كالهواء والحب والخبز

منصة 2021/07/11
...

  حاوره: يوسف محسن
من ضفافِ شط الكوفة إلى تخومِ العالم بدأت أولى الخطوات، هكذا يكتب الشاعر عدنان الصائغ في حوار أجرته معه الصفحات الثقافية لجريدة الصباح، ويضيف {رغم وحشة المنفى وما أخذه ويأخذه من ذكريات ودفءٍ وأصدقاء وينابيع طفولة، إلا أنه منحني أهم شرطٍ للوجود، وهو الحرية: في الكتابة والتفكير والعيش والتأمل}.
للعلم أخبرنا الشاعر أنه انتهى تماماً من عمله الجديد (نرد النصِّ) وهو نص مفتوح طويل بأكثر من 1300 صفحة.
 
مسارات حياتيَّة
* في البداية حدثنا عن المسار الإبداعي للشاعر عدنان الصائغ؟
- مسارُ القصيدة الذي جذبَ حياتي وجذبني من ضفافِ شطِّ الكوفة إلى تخومِ العالم، عابراً لا أستقرُّ.
بدأتُ أولى الخطواتِ في زقاقٍ صغير تنحني على جانبيه البيوتُ، التي سمعتْ صرخةَ ذلك الطفلِ عام 1955 ذات يومٍ كوفيٍّ مشبوبٍ، ويجدُ الطفلُ أمام كاروكه فواتير طويلةً لشجونٍ وديونٍ متراكمة عليه أنْ يسدّدها، وليجد ذلك البيت الذي وُلد فيه يُرهن ثمَّ يُباع نصفه ثم النصف الآخر لدواء أبيه، بعد أنْ كان الأبُ المريضُ قد باع دكّانه وضاعت بساتينه في أبي صخير.
أحسستُ بالجذور الأولى تتشلّعُ: أرضاً [بيتنا]، وسقفاً: [أبي]. 
ثمَّ تلتْ ذلك تشلُّعاتٌ وتنقلات متتالية، من بيتِ الطفولة المباع إلى بيتٍ آخر للإيجار في منطقة الجديدة، إلى آخر وآخر وآخر، ثم إلى منطقة السراي، ثم الحي الجديد قرب ميثم التمّار، ثم بغداد، ثم عمّان، ثم بيروت، ثم لوليو (جنوب القطب الشمالي)، ثم مالمو (جنوبها)، ثم لندن.. حيث أنا وسنواتي الخمسُ والستون وكتبي العشرون ومخطوطاتي وأحلامي، في شقّةٍ صغيرة، ومكتبةٍ تتوسّعُ وتتقلّصُ، وأمالٍ تقتربُ وتبتعدُ..
 
تكوين التجربة الثقافية
* وعن التكوين الأول، النتاجات الشعريَّة؟ التجربة الثقافيَّة؟
- دخلت المدرسةَ الابتدائية {ابن حيَّان} متأخراً عاماً عن أقراني، بسببِ الحال، وعرفتُ العملَ الشاقَ منذ الصبا في مهنٍ مختلفة ومتنوعة لا تتناسب وسنواتي الطرية منذُ العاشرة فما بعد.
كان يخفِّفُ عن كاهلي صحبتي والنهر الذي كان قريباً من بيتنا ومن روحي أيضاً، فأقضي بعضاً من الوقتِ سارحاً بين أمواجهِ التي قادتني ذاتَ يومٍ الى كتبٍ وأوراقٍ طافيةٍ سبحتُ إليها وحملتها الى البيتِ فرحاً لأبدأ بتهجّي حروفها لاكتشافِ ما تحمله من أسرار وأخبارٍ..
هل من ذلك النهر، ومن تلك الحروف الطافية الغاربة، بدأت رحلتي.. ثم وجدتني في ما بعد ألتهم مكتبةَ خالي د. عبد الإله الصائغ، (فلمْ يكنْ في بيتنا مكتبةٌ أو رفٌّ)، ثم المكتبةَ العامَّة، ثم توقفي الطويل المرير بجيبٍ خاوٍ أمام مكتبة عباس السبّاك.
في ما بعد سأتعرف على صديقي الشاعر علي الرمّاحي وتبدأ مرحلةٌ أخرى من كتابة الشعر العمودي والمساجلاتِ وقراءة الشعر العربي القديم، ثمَّ إلى ندوة الأدب المعاصر في النجف وأدبائها والشيخ عبد الصاحب البرقعاوي، وثمَّ الدخول إلى عوالم الماغوط والسياب والبياتي وأدونيس، ثم انتقالي الى بغداد وتعرفي على شعرائها ومكتباتها وعبد الرزاق الربيعي.
ثمَّ سيصدرُ أول ديوان شعر لي عام 1984 بعنوان {انتظريني تحت نصب الحرية} والذي وضعني وجهاً لوجه أمام القرّاء والنقّاد.
وتوالت بعدها الإصدارات حتى خروجي من العراق عام 1993 وحتى هذه الساعة من ضباب لندن والكورونا واللمسات الأخيرة على نصي الجديد {نرد النصِّ}..
كنتُ أواصلُ الكتابة والقراءة والبحث فأصدرتُ العديد من المجموعات الشعريَّة، تُرجم بعضها إلى لغات أخرى وكان آخرها: الى الإنكليزية، عن دار سيرين Seren بعنوان: Let me tell you what I saw {اتركوني أقصّ لكم ما رأيت} وهي مختارات من قصيدتي الطويلة {نشيد أوروك} قامت بإعداده وتقديمه وترجمته الشاعرة البريطانية جني لويس أستاذة الشعر في جامعة أكسفورد مع نخبة رائعة وجادّة من المترجمين العراقيين والعرب، كما صدر أيضاً عن دار وشمة Wachma في الفرنسيَّة ديواني تحت عنوان: Ce que la mer révèle de mon silence {ما يقول البحر عن صمتي} إلى الفرنسية من قبل المترجمة والشاعرة التونسية فاطمة بن فضيلة.
 
شرط الحريَّة
* وصل الشاعر عدنان الصائغ الى المنفى؟ ماذا وجد؟ هل منحك المنفى إضافات جديدة؟ ما هي التجربة من هذا الاقتلاع من المكان القديم الأليف مكان التكوين الأول؟
- رغم وحشة المنفى وما أخذه ويأخذه من ذكريات ودفءٍ وأصدقاء وينابيع طفولة، إلّا أنه منحني أهم شرطٍ للوجود، وهو الحرية: في الكتابة والتفكير والعيش والتأمّل. وأيضاً منحني صدق المراجعة ووجعها لكل ما ورثناه من تاريخٍ ومناهج وعاداتٍ وأفكارٍ، فضلاً عن الاطلاع على الآخر ومحاورته ومحاولة فهمه.. وهذا الأمر ضروري جداً لمن عاش في بلدٍ عانى لسنوات طويلة وكالحةٍ من الانغلاق وسياسة الحزب الواحد والرأي الواحد والقائد الواحد والدين الواحد والطائفة الواحدة.
هنا وجدتُ نفسي وتجربتي أمام مفترق طرقٍ، أو طريقين أضاعا الكثيرين بين الانسلاخ المطلق أو الثبات المغلق. لكنني عملتُ – بإصرارٍ ووعيٍ – منذُ أنْ وطأتُ هذه الأرض الغريبة، أن تتواصل جذوري مع المُشرق والروحي والعميق من تراثنا الهائل المضيء وكذا التجارب الجديدة عراقياً وعربياً.. وأيضاً أنْ تتواصل غصوني مع إنجازات وتجارب الغرب على الصعيدين الأدبي والحياتي، من مناهج ومباهج ورؤى وأفكار وأساليب.
وكانت لي تجربة مهمة مع الشاعر السويدي توماس ترانسترومر وآخرين. ومع الشاعرين البريطانيين ستيفن واتس وجني لويس وآخرين.
 
سلّم لي على منفاك
* في ديوانك (تأبط منفى) يسيطر عليكم الاغتراب المكاني والوجودي والنفي الذاتي هل تحدثنا عن هذه التجربة؟ وكيف تحول الاغتراب والنفي إلى الحقل الشعري؟
- العنوان ولد من مشهدٍ: حين ودَّعنا الشاعر عبد الوهاب البياتي في مقهى الهورس شو، ذات يومٍ من منتصف تسعينيات القرن الماضي، كنّا: الناقد د. عبد الرضا علي في طريقه إلى صنعاء، وأنا في طريقي إلى دمشق ثمَّ بيروت. قلتُ له: سلّم لي على منفاك. فأجابني وأنت كذلك سلم لي على منفاك. وافترقنا وظلَّت تلك الجملة تعتملُ في روحي وذاكرتي، وأنا أجوب المدن والأصقاعَ حتى اندلقتْ أمام مسودة ديوانٍ جديدٍ كنتُ أكملتهُ في السويد. أمَّا موضوعته وأجواؤه فقد جاءا عندما وجدتني أمام مفازات الصقيع والوحدة اللانهائيَّة. وأمام ثلاث مفارقات دفعةً واحدةً، شدّتني أول وصولي إلى لوليو، عام 1996: درجة الصقيع التي تصلُ إلى (36 تحت الصفر)، منسوب الحرية الفائض، وتلك السماء الهادئة التي {لمْ يُعَكِّرْ فضاءاتِها مدفعٌ منذُ قرنين} كما أقول في إحدى قصائدي. لقد وجدتُ نفسي وقصيدتي أمام تجربة جديدة مثيرة وغرائبيَّة لم أكن أحلم بها.. أنا القادم من بلادِ الشمسِ الفائرةِ، والحروبِ الدائرةِ التي تفرِّخُ حروباً والطغيانِ الفائضِ والمستفيضِ..
 
الألم والفجيعة
* (ونظلُّ نعوي في شوارعِ العالم) ما هذا الألم والوجع أحسُّ أنك صادقٌ هنا، تحت أي ظروف مفجعة كتب هذا المقطع؟
- عام 1999 وأمام بحر المانش وجدتني ألج أعماقه المضطرمة عبر قناة الدوفر الطويلة تعبر بي من باريس إلى لندن اللتين أزورهما لأول مرّة. كانتْ رحلة تعني الكثير، وضعتني أمام تجربة فريدة أخرى لشعوبٍ تناطحتْ لسنوات وعاشت كوارث حربين عالميتين دمويتين، ثم تركتْ كلَّ ذلك الإرثَ وراء ظهرها، وراحتْ تشقُّ الجبالَ والآفاقَ والبحارَ لتتواصل وتتآصر حتى لتكاد أنْ تكون بلداً واحداً في قارةٍ. فأنتَ تجوب أوروبا ولا تحتاج لتأشيرة ولا توقفك حدود. ونحن لا نستطيع العبور من بلد عربي إلى آخر عربي، وأحياناً من محافظة في البلد نفسهِ الى محافظة أخرى. يا لعمق الهوّة والألم.. أدركتُ لحظتها أنه عندما يتحرَّرُ العقلُ ويستقلُّ، فإنه سينفضُ عنه وعن إنسانه وأرضه، كلَّ أمراضِ الماضي والأوهام والعقد والخرافات، ليبني حاضره ويستشرف مستقبله.في تلك الليلة، ومن ذلك النفق Dover خرجت تلك القصيدة - الصرخة..
 
أصل الأساطير
* لدي حدس أنَّ أغلب الأساطير التي نتداولها ونصنفها الآن هو قصائد حافظت على وجودها، ما هي العوامل التي تجعل من القصائد أساطير تمثل روح الأمم؟ لنأخذ منك {نشيد أوروك} أنموذجا؟
- الأساطير وقبلها التعاويذ والتراتيل هي أولى القصائد التي كتبها الإنسان الأول أمام لغز الوجود ومسار الأحداث التي أمامه وعجزه الكامل عن مواجهتها، فاتجه للشعر، ليجد فيه الملاذ والتعويذة والحافظة والإشراق والتحدي.. وأنا في ذلك الإسطبل في قرية شيخ أوصال ذات أجواء ملتبسة وغريبة من عام 1984 وجدتني كذلك الإنسان الأول أعزلَ وحائراً أمام لغز الحرب والموت فلجأتُ الى القصيدة، ومنها الى الأساطير بكل تجلياتها وأنواعها ليست فقط أساطير بلادنا وادي الرافدين، بل أساطير العالم من جزر التبت الى أدغال أفريقيا إلى شواطئ أمريكا إلى كهوف أوروبا... الى... وإلى.. ومزج كل ذلك بما يدور حولنا وفينا. لأخرج منها بعد 12 عاماً بهذا العمل {نشيد أوروك} الذي أدركت من خلاله أنَّ الشعر قادرٌ على صهر كلّ ما في الوجود من فنون وصرخاتٍ ومعارف وأحلام وآداب وألحان وأساطير ووقائع والخ. إنه تماماً مثل أسد الشاعر الفرنسي بول فاليري الذي هو هذه الخِراف المهضومة حوله.
* وهل عندما كتبته - أي نشيد اوروك -، كانت تسيطر عليك فكرة الملحمة الشعرية؟ حيث نجد الإشارات التاريخيَّة، الموروثات الشعبيَّة، جمل من المذكرات، اليومي المعاش؟
- أبداً. في البدء لم يكن الأمر كذلك. كان مجرد أوراق متناثرة يكتبها شاعر وجد نفسه جندياً مُكرهاً في حربٍ لا ناقة له فيها ولا جمل.. وفي مكانٍ لا يخطر على بال أحد. مكان كان بالأساس اسطبلاً لحيواناتٍ في قرية معزولة صغيرة نائية في شمال كردستان العراق.
الحيوانات هربتْ من القصف أو هُرِّبتْ، لنبقَ نحن بدلاً عنها في ذلك المكان.. 
في تلك الأيام كان ديواني الأول {انتظريني تحت نصب الحرية} قد صدر في بغداد ونال حفاوة من بعض النقّاد المعروفين منهم: عبد الجبار داود البصري وطراد الكبيسي ومدني صالح ويوسف نمر ذياب وآخرون..
مُحتفى بي هناك. ومُهان هنا.. مفارقة أولى قادتني في ليلة قارصة ومظلمة على ضوء الفانوس المدخنِ والدموع إلى أول السطور: 
}في المَحَافِلِ...
.. أو في المَزَابِلْ} 
لتنتهي إلى سطرها الأخير: {أماناً بلادي التي لنْ أرى...}.
وكأنها نبوءة الشاعر المؤلمة. وكنتُ وقتها في بيروت عام 1996، فارّاً ومطارداً من كوابيس الحرب وأنيابِ صُنَّاعها. نعم؛ في البدءِ كان الأمر بالنسبة لي أشبه بهذيان طويل، أو كتابة كوابيس ووقائع وأصوات وأساطير تتداخل، أو وصية ليست لأحد.. ولم أكن أتوقع أنها ستلقى صدى طيباً أوسع وخاصة بعد ترجمتها إلى اللغة الإنكليزية مؤخراً. لتكتب عنها مثلاً الشاعرة لوسي هاملتون من كامبريدج: {إنَّ نصاعةَ قصائدِهِ وصدقَها، تمتزجُ بشكلٍ لا يُنسى مع موسيقى صوتِهِ 
المتأصِّلِ. 
وإنَّهُ لأمرٌ مُلهِمٌ أنْ يصلَ أخيراً شِعرُ عدنان الصائغ ذو الطرازِ العالميِّ إلى جمهورٍ أوسع من الناطقينِ باللغةِ الإنكليزيةِ في العالمِ}. 
ويكتب البروفيسور نيال مونرو، مدير مركز أُكسفورد بروكس للشعر: {العديدُ من القرَّاءِ انتظروا مختاراتٍ شاملةً من نشيد أوروك ومع هذا العرضِ اللذيذِ والمتَّقدِ (..) يمكنُ الآن أنْ يحظى بتقديرٍ أكبر من لَدُنِ قرَّاءِ اللغةِ الإنجليزية، الذين سيواجهون نصَّاً مذهلاً ممتزجاً، يصهرُ التقاليدَ العربيةَ والأوروبيةَ معاً. نشيدُ أوروك؛ خيالٌ ملحميٌّ، بيدَ أنَّهُ حقيقيٌّ لا لبسَ فيه، ومرعبٌ غالباً، من قِبلِ راوٍ كان شاهداً على وقائع مهشمةٍ (..) أنَّ هذا العملَ الضخمَ للصائغ يأبى أنْ يستكينَ، متمسِّكاً بقوةِ ايمانِهِ في قدرةِ الشعر على التفكُّرِ والخلاص}.
وكان الشاعر شيركو بيكه س قد كتب على غلاف طبعته العربية الثانية في بيروت عام 2006: {إنَّها قصيدةُ الكورال. تدفّقٌ لغويُّ، لغةٌ متلاطمةُ الكلماتِ والصورِ على الدوامِ. كما وأنَّ الشِعرَ هنا يشبهُ سدّاً في بعضِ الصفحاتِ إذْ يخزنُ الماءَ بهدوءٍ ومن ثمَّ تُفتحُ البوَّاباتُ لكي تتدفقَ خارجاً وبقوةِ ألف حصانٍ شعريٍّ!
 
موت الشعرية
* ما هي تصوراتك عن المشهد الشعري العراقي الآن؟ لا أريد استخدام مفردة الداخل/ الخارج، هل يمكننا الحديث عن موت الشعرية العراقية؟
- نعم. لا أؤمن أبداً بأي تقسيم: لا داخل ولا خارج، ولا أي خاناتٍ جيليَّة أو شكليَّة.. ذلك لإيماني بأنَّ الشعر أكبر من هذا وأوسع.. وأنه لا يُحـــــــــــدَّدُ بزمن أو وطن أو قضية أو قومية أو دين أو مذهب أو أي شيء آخر.. أما تصوراتي عن المشهد الشعري العراقــــــــــي، فإنَّه في تفتحٍ وتطوّر وتجريبٍ دائم.. وهذا سرّ توهجه وديمومته. الشعر باقٍ ببقاء الحياة نفسها.. هو كالهواء والحب والماء والخبز، في كون الانسان وكينونته: كتابة واحساساً وتصوراتٍ.. لذا لا يمكنك سيدي، ولا يمكن لأحد أن يعلن مــــــــــوت الشعر في العراق أو في أية بقعــــــــة من
العالم.