متوالية الثقافة

ثقافة 2021/08/09
...

  حبيب السامر  
 
تبدو اللحظات شاحبة، حين نحاول أن نتعمق في فهم ما يجري من حولنا، وبالتحديد طبيعة هذا العالم المضطرب المتداخل، المتشعب من خلال رسم خطٍ موازٍ لوعي الثقافة والانغماس فيها، السائد وانعكاساته على الواقع، وتوظيف أهمية المصطلح، ربما بفعل خصوصية الأعمال المتشابهة والمتضاربة باختلاف طبيعة المدن ومقارنتها بمستويات قربها، وبعدها عن المركز. تتضح نبرة تدفق الأصوات ووصولها إلينا بشحنات متباعدة، متقاربة، في ما لو بحثنا عن متوالياتها المتكررة ونوازعها المرتبطة بالمجتمع، واختلاف فعلها المتجدد حتى في أحاديثنا اليومية التي غادرها الهمس ومستوى الكلام المنخفض، هل هذا دليل على انحسار عالم الشفاهية وبزوغ علم التقنيات الحديثة من خلال طرق المراسلات وتنوّع مصادر الاتصالات والمراسلات ووسائل ووسائط التواصل الاجتماعي الذي أخذتنا الكتابة فيه أكثر من النطق أو الحديث والحوار. كتب جون كيج عام 1937 "في أي مكان نكون فيه، فإن ما نسمعه في الغالب هو الضجيج، يزعجنا عندما نتجاهله، ويطربنا حينما نصغي إليه"، من هنا نجد أنفسنا في جلساتنا الصغيرة، وربما في المقهى أو حين نكون في جلسة ثقافية، تتسرب الكثير من الأصوات التي تفسد عليك فهم ما يجري، لو تحدثت مع شخص قريب من ثقافتك وميولاتك الأدبية أو الفنية مثلا، هل يستطيع المقابل أن يصغي إليه باهتمام كي تكمل حديثك، حتما ستتداخل العديد من الأصوات التي تعمل على تشتيت الذهن، مخترقة الأمور الحسية المتوخاة لوصول الصوت بانسيابية وجاذبية ليتم الحوار بتلقائية، ويبرز التساؤل المنطقي جدا: قيل سابقا "الصمت أرخص أنواع الفلسفة" وظل هذا القول المهم يتنامى ويستمر معنا، نستخدمه حين يكون الصمت ملاذا للحديث وتكتفي بإيماءة وحركة لا إرادية.. يبدو واضحا أن (الثقافة البَصَرية) سائدة في تعميق خصوصية الارتباط باللحظة التي تبدأ أصابعك بالضغط على الحروف المتراصفة في الكيبورد لتصل رسالتك التي تعتمد العين وتتداخل بعض الحواس في وصول الإشارات الى الفهم التام، فقد انتشرت بصمة الصوت والفيديو، ومقاطع الموسيقى، والصور المعبرة، والرسائل القصيرة، ربما لسهولتها وإيصال الفكرة المطلوبة بأقصر الطرق، فعلا هي تجربة حسية، قد نجد التداخل بين (البَصَرية) و(الشفاهية) البعيدة، كما سمعنا أن الصوت هو عبارة عن (اللّمس عن بعد)، لذلك اعتاد الكثيرون على تشغيل التأثير العاطفي السريع الذي يتلاشى مع مرور الوقت، على الرغم من انتشاره بمساحات واسعة كونه يشتغل على تنفيذ العديد من المهارات التي تؤدي وظيفتها بشكل طبيعي. لكننا وبحكم تنشئتنا الاجتماعية، وتعودنا على أدوات تنتمي إلى الحوارية المباشرة وإرسال شفرات تقود إلى منح شحنة عضوية لتتبع مسارات الكلام، يتوجب بالمقابل هناك حرص المتلقي الذي يتأثر بموضوعية كون الكلام وسيلة أزلية لتوسيع المدارك وإنشاء وسائل لتبادل المعلومات وفق خبرة متأتية من تدريب مستمر بتلقائية لكسب المهارات من خلال الممارسة بين المرسل والمرسل إليه، لكن ما يثير الأسئلة المتعددة، هل يتمتع المتلقي بالصبر ذاته الذي كان ينتظر طويلا حتى يكمل المتحدث كلامه ويحافظ على رباطة جأشه وهدوئه لحين الانتهاء من الحديث؟ ثم كيف للمتلقي الآن أن يتعامل بروح تشجع المقابل في الاستزادة من المعرفة والأفكار المتجددة من خلال تقبله لروح المناقشة وتنمية الاهتمام بالدافعية والمواءمة في استمرارية اتجاهات الكلام؟، كل هذا يجعلنا أمام حيرة جديدة مع التطورات الحديثة في الأساليب والتقنيات المعلوماتية السريعة، هل هناك مصغٍ للحوار من دون شرود ولامبالاة وفقدان صبر التحمل، ربما بسبب إرهاق الحياة ووسائلها وتعدد الأصوات المشتتة للانتباه، وقد نجد أسباباً أخرى تخص المتحدث وسطحية محتواه.. هي أسئلة في العموم ولا تدخل في خصوصيات الخوض في مساحة الانتقاد أو رسم علامات استفهام حمراء في التعاطي مع هذه الثقافة أو تلك.