القيم الأخلاقيَّة في وسائط التواصل الاجتماعي بالعراق

علوم وتكنلوجيا 2021/08/16
...

 الدكتور صفد الشمري *
لا يعني التمسك بحريات الإنترنت رفض أي إجراء لتنظيم استخداماتنا الرقميَّة، التي ترزح منذ عقدين تحت وطأة عشوائيَّة مقيتة، فالعراق بحاجة غير قابلة للنقاش لتنظيم تلك الممارسات أسوة بالعالم، حين حثت الدول خطاها لبلوغ بيئات رقميَّة آمنة لمجتمعاتها وراعية لقيمها وحافظة لهيبتها وهويتها الوطنيَّة، الأمر الذي يستدعي مشاركتنا جميعاً في رسم خريطة مجالنا الرقمي الجديد، الضامن لحريات الأفراد بانتهاج الشفافية وحماية كرامتهم وخصوصياتهم وقيمهم ضمن نطاق هيبة الدولة.
أقرَّ مجلس القضاء الأعلى في العراق، تشكيل لجنة مشتركة مع وزارة الداخليَّة وجهاز الأمن الوطني وخلية الإعلام الأمني وهيئة الإعلام والاتصالات ونقابتي الصحفيين والفنانين العراقيين، وأكد أنَّ إجراءه جاء بناءً على «ما عرضته خلية الإعلام الأمني من رصدٍ لحالات تجاوز في مواقع التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام، والتي تشكل خطراً على منظومة الأخلاق العامَّة التي تتمثل بعرض ما يخدش الحياء العام وبث الفسق والفجور والترويج لأفكار هدّامة تتنافى مع الالتزام الديني والأخلاقي، وكذلك المحرض على الطائفيَّة لتحقيق مكاسب انتخابيَّة. وتتولى اللجنة مهمة رصد المخالفات المذكورة والتوصية الى محاكم التحقيق المختصة باتخاذ الإجراءات القانونيَّة بخصوصها».
ومثل أي إجراء يتعلق بمسار المحتوى الرقمي في العراق، فإنَّه أنتج ردود أفعال متباينة، نعتقد بأنَّ المبعث الأساس لها، تمحور في غياب الرؤية الجماهيريَّة على المستوى المحلي في طرائق تنظيم صناعة تلك المحتويات، حين اعتاد مستخدمونا بأنْ تسيرَ من دون ضابط معلن وممنهج، في وقتٍ صارت فيه الوسائط الرقميَّة المتعددة، وبفعل شيوع استخداماتها، البديل الرئيس للإعلام التقليدي، وبذا دعونا نقرُّ بأنها حلّت عنصراً فاعلاً في مؤسسات التنشئة الاجتماعيَّة، التي تضع حجر أساس يقيّم الأفراد، ويحكم ميولهم واتجاهاتهم ويوجه سلوكياتهم، كما يمكن أنْ يؤثر في صناعة رأي عام مضلل، تحت ضغط قدراتها في التزييف والإقناع والتأثير، وبما قد يعود بآثاره في التحريض والتسقيط وتعكير السلم الأهلي، لا سيما مع الاحداث والصراعات والاستحقاقات الكبرى، ومنها الانتخابات.
 
الحاجة أم الاختراع
علّ السؤال الأكثر أهمية في مجادلات تنظيم الممارسات الرقميَّة بالعراق اليوم :»هل نحن بحاجة لآليات تنظيم مثل تلك الممارسات؟»، نعم.. نحن بأمس الحاجة لهذا التنظيم، الذي كان يفترض أنْ يحصل منذ عقدين، فقد لا نبالغ في القول بأنَّ العراق من البلدان القليلة في العالم التي لا تعمل بضوابط مختصة بتنظيم الممارسات الرقميَّة، في وقت قطعت فيه دول العالم والمنطقة أشواطاً كبيرة في هذا المضمار.
هذا التنظيم ينبغي عدم النظر إليه من جنبة سياسيَّة فقط، وانه قد يمسُّ حريات الإنترنت التي يجب أنْ تكفلها الدولة، فالحرية من دون ضابط بذاتها فوضى، قد يضيع فيها «حق الرأي» نفسه، حين لا نعلم ما هي حدوده، ناهيك عن اختراقات اجتماعية وأخلاقية ودينية، أخذت تجتاح منظومتنا القيمية الملتزمة، بشكليه «الخشن» المعلن عبر محتويات رقمية خادشة للحياء، و»الناعم» الذي تغلغل إلى بيوت العراقيين، تحت عنونة الانفتاح نحو الآخر، ولا يأتي هذا الطرح من منحى «نظرية المؤامرة»، وإنما هو نهج كوني وضعت البلدان العالم كلها مصداتها الممكنة لحماية مجتمعاتها، تحت مسميات المجتمع والوطن والسيادة والمواطن والحريات والقيم، وكلها جديرة بالحماية.
في الهند مثلاً.. والتي تغزو العالم بنتاجاتها السينمائيَّة وفسلفتها الدرامية المنطلقة من المنظومة القيمية المعروفة للجميع، أقرت بحزيران 2020 حظر تطبيق «تيك توك»، إثر عدم استجابته لتحذيرات نيودلهي بمراعاة الخصوصية الهندية، ومثل هذا التحذير وجّهته إلى مجال النخبة «تويتر» بأنَّه سيواجه «عقوبات غير متوقعة»، إلا أنَّه انصاع باستجابته مطلع الأسبوع الحالي وإعلان إدارته احترامه قواعد تكنولوجيا المعلومات الهندية الجديدة.
وإلى مصر، التي صعدّت من إجراءات مواجهة التعرض للقيم الأخلاقية والاجتماعية مع بداية العام الماضي، وكانت الحادثة الأبرز ما أطلق عليها «فتيات تيك توك»، حين حكمت على خمس فتيات بالسجن المشدد بتهمة الاتّجار بالبشر، مؤكدة أنَّ تلك «الجريمة قامت على ركن مادي... وتطويع المجنى عليه وإخضاعه للجاني وتحقيق السيطرة عليه، وذلك من خلال قيام الجاني بالاستفادة من المجنى عليه واستغلاله، وهو ما قمن به باستخدام واستغلال الأطفال الإناث بإغرائهن بالظهور معهن في مقاطع فيديو والرقص بطريقة فاضحة عبر محتويات فيديويَّة في تطبيق «تيك توك»، وبما يخل بالحياء ويحرّض على الرذيلة، استغلالاً منهن لحاجة المجنى عليهن وصغر سنهن، ومن ثم تحقيق منفعة مادية من وراء ذلك، وزيادة أعداد المتابعين».
مثل تلك الإجراءات، وغيرها من الأمثلة في دول عديدة، دفعت بمنصة «تيك توك»، التي حازت على مرتبة أكثر التطبيقات تحميلاً عبر هواتف المستخدمين في العالم بعصر جائحة كورونا، الى تراجعها عن نهجها الرقمي «التوسعي» وإعلانها مطلع الاسبوع الحالي عزمها طرح «قيود حسابات المراهقين، وهي سلسلة من التدابير والإجراءات للمستخدمين المراهقين الذي تتراوح أعمارهم ما بين (13) وبين (17) سنة بهدف جعل المنصة أكثر خصوصيَّة وأماناً وأقل إدماناً»، بحساب بيانها الذي يقرُّ بمخاطر مثل الإدمان، لا سيما بين شرائح الأطفال.
الأطفال في العراق، صاروا عرضة لمثل تلك المخاطر، وعلى تشكيل قيمهم الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة التي يتلقونها عبر الأوعية الرقميَّة المتاحة من دون ضابط، الأمر الذي يبيت مدعاة حمايتهم، وقد ينوّه ما يراه القاضي كاظم الزيدي، في معرض خوضه في قانون حماية الطفل العراقي: «بأنَّ للطفل حق التمتع بمختلف التدابير الوقائية ذات الصبغة الاجتماعية والتعليمية والصحية، ومن ثم حمايته من أشكال العنف كافة أو الضرر أو الإساءة البدنية أو المعنوية أو الجنسية أو الإهمال أو التقصير الذي يؤول الى إساءة المعاملة والاستغلال، وتكون لحقوق الطفل ومصلحته الأولوية في جميع القرارات أو الإجراءات المتعلقة بالطفولة»، ما يمكن عد التهاون في عدم تنظيم الوسائط الاجتماعية إهمالاً بحق الطفل العراقي وإساءة له، سواءً أكان في طفولته المبكرة أم المتأخرة، الأمر الذي يجعل من مسألة تنظيم الاستخدام الرقمي مسألة ملزمة قانوناً من قبل المؤسسات المعنية، فضلاً عن كونها مسؤولية أخلاقية.
 
الهدم الناعم للقيم
يتبادر إلى الذهن على الدوام الفعل الفاضح والرذيلة والفسق والفجور على أنها قيمٌ رئيسة يجري الاعتداء عليها عبر محتويات وسائط التواصل الاجتماعي وبما يدفع نحو تطبيع التعاطي معها والقبول بها، في هدم «خشن» لتلك القيم، في وقتٍ لا يتم النظر إلى حزمة قيم يجري هدمها على وفق النهج «الناعم» غير المحسوس، بحيث يمكن ان تغيب فجأة عن مجتمعنا جرّاء صرف النظر عنها في مقابل الإيغال في محوها عن مفردات التنشئة الاجتماعية، ومنها تلك القيم المرتبطة بقوامة الخلق والصبر والالتزام الديني والعقيدة السليمة والعدل والمساواة والعون والإحسان والصدق والتواضع والأمانة والعفة والالتزام بالمسؤولية واحترام الآخرين والصفح والعفو، والتي تمثل بمجملها الهوية الأخلاقية للمجتمع وأفراده، الأمر الذي يتطلب الوقوف عندها والبحث في كيفيات تسويقها في المجتمع.
وبذا.. تكون القيم الاخلاقية بمنزلة المثل العليا في المجتمعات بمختلف ثقافاتها ومعتقداتها، وعلى امتداد التاريخ الإنساني، وبصرف النظر عن الاختلاف في مصدر تلك القيم، التي يحددها المختصون بكونها: «المبادئ والقواعد العامة التي توجه السلوك البشري، وتهدف بالنتيجة الى تعزيز أواصر العلاقات بين أفراد المجتمع، ودعم الحياة بما يساعد على قدر من التماسك الاجتماعي، وعلى الرغم من وجود الفوارق والتناقضات داخل المجتمعات وفي ما بينها، تبقى تلك القيم هي المعايير الموجهة لحركة الإنسان والضابطة لأفعاله».
فالقيم الاخلاقية تشكل حزمة المبادئ التي تعمل على احترام الإنسان لنفسه وللآخرين، بوصفها قيمة يتميز بها الفرد، وتعمل على تشكيل الوازع النفسي لكل ما قد يدفعه للانحراف عن الصلاح، بصياغة سلوكه وتصرفاته في نطاق محدد يتوافق وينسجم مع القواعد التي يؤمن بها المجتمع عامة، وتتميز بانها قيمة ذاتية تتعلق بطبيعة الفرد، وتشمل الرغبات والميول والعواطف، وهي متنوعة بالنظر إلى كثرة الحاجات النفسية، ومن هنا تتعدد القيم الأخلاقية تبعاً لاحتياجات الطبيعة الانسانية وميولها.
وحتى وقت قريب.. تشدد الادبيات على ان تشكيل القيم الاخلاقية يعتمد على مجموعة من المصادر الرئيسة، ومنها الإعلام التقليدي، بوصفه إحدى مؤسسات التنشئة الاجتماعية الرئيسة، ومن هنا كان للتلفزيون في العراق دوره المؤثر في القيم السائدة وفي توجيهها، لا سيما بعد التعددية الإعلامية التي أتاحت إشاعة مضامين اعلامية متنوعة، مثلّ الكثير منها تحدياً للقيم الأخلاقية، مثلما جرى توظيف التلفزيون في الصراعات الاجتماعية والسياسية المحلية، وأنتجت العديد من القنوات الفضائية برامج خدمت أهداف تلك الصراعات.
فكيف هي الحال مع الوسائط الرقمية التي أخذت محل التلفزيون، وصار أكثر تأثيراً منه، تحت ضغط تغييب أداور حراس البوابات التقليديين ممن كانوا يمررون المضامين التي يعتقدون أنها تتوافق مع قيمهم الأخلاقية والسياسية، وصارت المحتويات الرقمية تنساب بين المستخدمين، ويزيد من آثارها السلبية عدم توافر آليات تنظيم تلك المحتويات في البلاد.
خطر التلفزيون في هذا المجال يكرسه الاعتقاد السائد بقدرته على تشكيل القيم والعادات السلوكية، وانه كلما زادت معدلات المشاهدة، صار المتلقي يميل الى الاعتقاد بالعالم ورؤيته وفقاً لما يقدمه التلفزيون نفسه، على الرغم من معرفته بأنَّ بعض ما يقدمه مضلل، لدرجة أنْ يمكنه خلق الأوهام عن الواقع، والتي يجري الإحساس بها على شكل أقوى من التجربة الفعلية، ولنتخيل الحال مع المحتويات الرقمية.
 
نحو تحوّلنا الرقمي
يُنظر إلى التحوّل الديمقراطي على أنه: الانتقال إلى حالة سياسية إيجابية, تتجسد مقوماتها في التداول السلمي للسلطة من خلال مجموعة من الممارسات، منها الانتخابات ومراقبة سلوك الحكام والتعددية السياسية, وهي بمثابة مرحلة الوسط بين نظامين، وقد يعترضها الوقوع ببعض الأخطاء، نتاج حداثة عملية التحوّل بذاتها بالنسبة للمجتمع، إلا أنَّ الحكمة تكمن في كيفيات إعادة تصويب المسار، بأقل قدر ممكن من الضرر.
مثل هذا الأمر تماماً ينعكس في تحوّلنا المنشود إلى البيئة الرقمية الآمنة، وهنا لا يتحدد تحوّلنا الرقمي بأدوات التقنية وبناها التحتية فحسب، بل بتنمية الجوانب الوظيفية والمهنية والأخلاقية للمستخدمين في العراق وتنظيم مهاراتهم وخياراتهم الرقمية على مستوى المؤسسات والأفراد، وعلى وفق آليات قانونية ولوائح تنظيمية معلنة، توضح لجميع الأطراف حقوقها وواجباتها، وبما يضمن الحريات، وهي مسؤولية الجميع.
 
* خبير التواصل الرقمي