جمالية الأمكنة

ثقافة 2021/08/26
...

 أ. د. باسم الاعسم
 
لست هنا في معرض تقليب صفحات كتاب (جاستون باشلار) الموسم بـ (جماليات المكان)، وفي منأى عن الفهم الاكاديمي النظري لعلم الجمال، أقول: إن الجمال يمثل أحد عناصر الوجود المادي، والمثالي معاً، فهو يتصل بالمادة، وبالفكر، ومعطياتهما من البنى الفوقية كالأدب والفن، والذوق، والسلوك، ومناحي الحياة الدنيا، والآخرة على وفق المفهوم الميتافيزيقي، حيث الجنة، التي تمثل كما ورد في القرآن الكريم، مكاناً جمالياً أعد للمتقين ((تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا)) [سورة مريم :63].
ولذلك، أن االله قد استعمل جماليات الأمكنة وسيلة في الخطاب القرآني، للتأثير على فكر ونفسية المرء، كمعادل موضوعي، فاحتشدت الجنة بممكنات الجمال، بوصفها مكاناً قدسياً، فيه كثير من بواعث الإحساس بالجمال، والأنهار المتنوعة، والفاكهة، والنخيل والرمان، وحور العين وسوى ذلك، بحيث تشتد أواصر صلة المرء بجماليات الجنة، بوصفها مكاناً جمالياً مثالياً جاذباً وبديلاً .
فضلاً عن وثاقة صلة الجمال الأزلية في الحياة، بالحق والخير والفضيلة، كما نظّر فلاسفة الإغريق، الى جانب كون الجمال يعد من خواص النفس الإنسانية، أو هكذا يفترض، وكما عبر أحد فلاسفة المسلمين الجماليين، حينما قال: من لم تكن نفسه جميلة، لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً، مع يقيننا، ان الجمال يمثل حاجة إنسانية ينبغي إشباعها. 
ولم يخطئ الفيلسوف (تشيوفسكي) حينما قال إن الجمال هو الحياة كما ينبغي لها أن تكون، والجميل هو ذلك الذي يكشف عن الحياة في ذاته، أو يذكرنا بالحياة.
ولعظمة الجمال، فإنه يشكل حلقة في سلسلة الكمال، وان الانسان هو الكائن الجليل الذي يتحسس الجمال، ويتذوقه، ويصنعه، فهو ينمي الطاقة الإيجابية في النفس الإنسانية.
وعلى حد رأي راوية عبد المنعم، ان الحياة من دون إحساس بالجمال، لا تستحق أن تعاش، هنا يصبح الجمال قيمة روحية كبيرة في حياتنا، وهو كذلك. في هذا المقال نسعى باتجاه استظهار جماليات الأمكنة على صعيد حياتنا العملية، إذا ما أدركنا أن الأمكنة على تبايناتها، الطبيعية والاصطناعية، تعد مصادر للجمال الآسر، وعندما تتدخل يد الإنسان الفنان، تبدو الأمكنة أشد سحراً وجمالاً بما في ذلك الأمكنة القبيحة، فيتحقق ما يُسمى بجمالية القبح، حتى في اللغة والأدب والفن.
وعلى وفق هذا التوصيف أقول: إن المدن الآثارية، لم تكن جميلة، لولا بصمات الفنانين المهرة الذين خططوا وصمموا، ونفذوا أروع الكتل الفنية والتصاميم الجمالية المثيرة، وكذلك حال المدن المستحدثة، فدبي مدينة الخيام، والرمال، والجبال، لكنها وفي زمن قياسي أضحت أروع مثال، لأمكنة الجمال، والسياحة، ومضرب الأمثال، بفضل التخطيط والانتماء، والنزاهة، والبناء، فالآف الشركات الاستثمارية تعمل وعشرات المصممين، وثمة اهتمام استثنائي بالثقافة والفن والجمال، وتلك هي الأسس محققة السعادة والكمال، كأنها من فرط جمالها، لوحات تشكيلية تسر الناظرين، فالمسألة ليست بحاجة الى معجزات إلهية، وانما هي محض خدمات تقدم لإسعاد الناس، والتخفيف عن كربهم، وعقدهم النفسية، فمن أشد الصدمات النفسية التي نواجهها في حياتنا اليومية هو القبح المستشري في الشوارع والأمكنة التي تعج بالتراب، والأوحال، والخراب، من شرقي بغداد ومداخلها، وحتى المحافظات، حيث تلال الأزبال على جوانب الطرق ومداخل المدن والمحال، بما يتعارض والذوق السليم، ولا أدري لِمَ لم تأخذ البلديات على عاتقها تجميل الأمكنة، مثل ازدياد المساحات الخضراء، وإزاحة تلال الأزبال، والتشجيع على المبادرات التي تخلق من الأزبال جمالاً، كما حدث في النجف، حيث يتواجد مكب نفايات بمساحة 10 آلاف متر مربع، قد تحول الى متنزه جميل، بجهود بعض الأشخاص، خلال عشرين يوماً فقط. 
وأحد شوارع العاصمة بغداد شهد هذا التحوّل فقد تعاون أبناء الشارع وبجهود شخصية، حيث زرعوا الزهور، ووضعوا أقفاص الطيور، معلقة على أغصان الأشجار، والإضاءة والنظافة أمام كل بيت، فشعر الناس بالسعادة لما أنجزوه بمبادرتهم الشخصية، كما ذكر في إحدى الاستطلاعات التلفازية.ولا أدري هل نذهب الى القصص، والروايات، والقصائد، للبحث عن أمكنة الجمال، بوصفها بدلائل موضوعية؟ أم نهرع بقلق مستديم، الى عوالم الخيال بحثاً عن الجمال، وهرباً من الواقع المحال؟، وما دور المؤسسات ذات الصلة بهذا الصدد؟.وهل يليق بشعب النفط والحضارة والخيرات أن يتحسر على الخدمات؟!.إنّ المسافرين الى مدن العالم المتمدن والمتحضر، يبغون التمتع بجماليات الأمكنة التي تكون فيها حتى المقابر محاطة بالزهور وتحف بها الأشجار، في حين لم يسافر أحد الى المدن المتخلفة القبيحة، ذات الحروب والنزاعات، فهي طاردة، لأهلها، فكيف جاذبة لغيرها؟!.إن شساعة القبح بفعل الحروب، والتجريف الذي طال بساتين النخيل والمساحات الخضراء، والزحف التجاري الذي محق البيوت والامكنة التراثية العابقة برائحة الماضي الجميل، والبناء العشوائي المقرف، كل ذلك يجعلها نوقن أننا في مسيس الحاجة الى ثورة جمالية، تبدأ من رياض الأطفال والمراحل الدراسية اللاحقة، إذ ينبغي تدريس مادة الجمال والتذوق، أو التربية الجمالية. أي منهجة الجمال، للاطمئنان على سلامة الأجيال المستقبلية من أعمال العنف، ونبذ القبح، عبر إشاعة الجمال في الفكر والسلوك وفي المدرسة والشارع والبيت.مع حملات إعلامية مكثفة تحث على ثقافة الجمال، وحملات لفرض القوانين والضرائب على المتجاوزين، مع تكريم المبدعين ومن دون الأشجار، والإضاءات الملونة، وتبقى بعض البنايات في المحافظات تطلى بألوان زاهية جميلة، وتزاح عنها أسلاك المولدات والاتربة أسفل الجسور من المناظر الكريهة والقبيحة، ويبقى الأمر رهن إشارة ذوي الشأن في المؤسسات الخدمية خاصة وتنسيقاتها مع المحافظين لخلق بيئة نظيفة وأمكنة جميلة تستقطب الجميع من فرط سحرها وروعتها.
فليس من البطر الحديث عن جماليات الأمكنة، لصلتها الوثيقة بحياة الناس وتذوقهم، وتطلعاتهم وأوضاعهم النفسية المضطربة، ولما للأمكنة من انعكاسات إيجابية على سلوك الناس، ووجدانهم.
أليس من حق الناس أن تهنأ بأمكنتها، فذلك حتماً سيعزز ارتباطها بها، وتشبثها بعوالمها، وفضاءاتها الجميلة والمحبة للنفس؟!. فمن أبرز خصائص الأماكن المقدّسة الباعثة على الارتياح والطمأنينة جماليات المكان التي تتوافق مع عظمة المكين.