سعاد البياتي
أيام عاشوراء تعني لنا الكثير من الذكريات والحكايات، التي تأخذنا الى عوالم جميلة رغم طابعها الحزين ولونها القاتم، الا أن طقوسها تأخذنا الى مديات زمانية مكتظة بالرؤى المعززة لتلك الأيام، التي كنا نؤديها زمانا ولا ندرك معناها، سوى انها ايام محرم وعزاء الحسين (عليه السلام)، فالذكريات العديدة التي حفظت في (الرام الرباني) الذي استودعه الله عز وجل فينا يأبى الا أن يستعرض امام مخيلتنا ما لتلك الطقوس وماعليها وكيف كانت تمر ونحن سعداء وحزانى.
اهتمامات متوارثة
جدتي وامي محوران مهمان في هذا الموضوع، فلهما الرحمة والغفران وانا استذكر في هذه الأيام استعدادهما للمناسبة، جدتي هي من تنظم المطلوب في عزاء سيد الشهداء عليه السلام .. تجلس لساعات على ماكينتها العتيدة ذات العتلة الواحدة، تخيط لأفراد أسرتنا الملابس السوداء، كل حسب عمره، او تصلح القديم دون اعتراض من أحد، لأن الاوضاع المادية لأبي لا تتناسب مع البذخ، ومن اهتمامات الجدة الغالية ايضا في هذا الشهر اقامة مجلس العزاء بأسلوب بسيط كتعليق الاعلام وتوزيع الثواب، والامتناع عن الشراء، تطلب من والدتي تهيئة خبز التنور الطيني والخضرة والتمر، وكان شهيا ومحببا لدى الجيران حينما توزعه بينهم. وهي عادات متوارثة، وفي المساء تجتمع صغيرات المحلة بلباسهن الأسود البسيط لاقامة طقوس محرم لطما « بطريقة متفاعلة جدا»، ومرددات قصائد عفوية لا يدركن معناها ولا نعرف حتى مصدرها الى الآن! الا أنها تفي بالغرض حسب ما أظن .
الملايَّة
في التاسع من المحرم وهو يوم مميز في طقوسه وصفاته، يبتدأ بحضور المجالس الحسينية النسائية التي تقيمها بيوتات المحلة، اذ ما ان ينتهي العزاء من بيت حتى ينتقل الجموع الى بيت آخر. وكنا نشد النظر والانتباه لتلك المرأة القوية الصوت والملامح (الملاية) ذات الهيبة المخيفة، بحقيبتها السوداء الممتلئة بدفاتر صغيرة لفت بقماش اسود ايضا، تتركز مهمتها في تأجيج مشاعر الحزن والبكاء والسهر حتى اليوم العاشر من المحرم يوم الحزن على استشهاد ابي عبد الله واهل بيته عليهم السلام واصحابه الكرام.
تحسس الواقعة
كلما سمعت جدتي وامي وابي صوت القارئ الحسيني الخالد (عبد الزهرة الكعبي) يشرع بقراءة المقتل المهيب، يسود الصمت والهدوء على البيت سوى شهقات البكاء والنحيب، يطوف مع ريح المروحة اليتيمة والمتواضعة على منضدة عتيقة، وكل شيء في اللحظة تلك لها وقع مؤلم ووجع نتحسسه حينها. يكفي أن يحضر اسم (الحسين) عليه السلام ليحضر البكاء كله. لا أذكر أني رأيت جدتي وامي تبكيان على شيء، كما تفعلان عند ذكر سيد الشهداء واخيه ابي الفضل العباس عليهما السلام.. يكمل القارئ نياحه، وأمي لا تكمل عزاءها نطالع حزنها بانكسار.. لا نفهم الحزن، ولا ندري كيف نرفع ما ظهر عليها من الهم. أسالها (أماه القارئ خلَّص. ليش بعدك تبجين) تجيب:
على مصيبة الحسين يا ابنتي. مصيبة الحسين توجع القلب!.
معانٍ خالدة
لا يفهم الأطفال كيف يبقون في الحزن، لا يعرفون كيف يبقون في صورة لا تغادرهم. كيف يستطيلون في تاريخ لا يعودون منه، ثمة مسافة زمن تربك أذهانهم الصغيرة، المسافة عند الطفل ليست سنوات، بل لحظات، اللحظة الجديدة تعني صورة جديدة، لا نلبث أن نغادر الحزن سريعاً نحو براءتنا، ولا نلبث أن نعود لمرحنا وشقوتنا ولعبنا، ثم لا تلبث زجرة أخرى أن تأتينا من جدتي وامي : قلت لكم هذه أيام حزن لا ضحك فيها، نخجل، نغطي أفواهنا بأطراف أصابعنا، ثم نعود مرة اخرى الى عالمنا الصغير لتبدأ معها حكايات جدتي عن ايام عاشوراء، أرادت أن نفهم معنى عاشوراء معنى ان ثورة الحسين عليه السلام وكيف استشهد، ارادت ان نكون ذات وعي وادراك لما نفعل ولماذا نلبس السواد، هي متفهمة اكثر منا، تحمل بين طيات عباءتها السوداء الكثير من الوعي والسلوكيات الرفيعة، تهذب فينا حد الضجر من كلماتها القاسية احيانا، حينما تجدنا لا نبالي، تبغي زراعة حب اهل البيت فينا بطرق مختلفة. فتارة بالحكايات الحزينة عن حال اطفال الطف، وتارة عن العطش، واخرى عن عناء السبي وهي تلطم جبينها، وتذكر اسم تردده دائما في قيامها ونومها (زينب) تذكرها بآهات خاشعة نتحسسه في عيونها وبكائها. ليكون هذا الاسم عنوانا
وقدوة.
دعاء وقيم
هكذا تبقى ذكرياتنا تنتعش بذكراك ابي عبد الله مهما طال الزمن وأخذت الدنيا منا كل جمال الايام الماضيات، ومهما توالت الاحداث.
آه ياجدتي ويا امي.. كم سقيتما من نعيم تلك الأيام الصادقات الصافيات، من رحيق عاشوراء الكرامة والانتصار.. فاليوم احتضنت سطوري كل حكاياتكما، وادركت قيمة وجودكما ودروسكما الينا، عسى الله ان يجعل مأواكما الجنة يا محبتا ابي الاحرار.