محمّد صابر عبيد
تحدّث الكثيرون عن إشكاليّة المعنى الأدبيّ لصلتها الوثيقة بعمليّة النقد الأدبيّ في مناهجه ومدارسه وتحولاته المختلفة، إذ لا يمكن تنحية هذه الإشكاليّة عن أيّ منهج نقديّ مهما كانت صلته بموضوع (المعنى) ضعيفة ونادرة، فالمعنى الأدبيّ كما هو معروف يتجاوز حدود الدلالة اللغويّة المعجميّة ذات الطبيعة الإخباريّة، وينفتح على مساحة دلاليّة جديدة تخضع لما يصطلح عليه (الانزياح) الذي يعتمد على طريقة القراءة وفعّاليّتها التأويليّة،
وكلّما كانت المسافة التأويليّة بين الدالّ والمدلول واسعة انعكس هذا إيجابيّاً على عمق الدلالة وانشطارها وخصبها وثرائها، على النحو الذي تكتسب فيه صفة (الأدبيّة) بُعداً جديداً عابراً المعنى المعجميّ البسيط والمحدود وهو يؤدّي غرضاً إبلاغيّاً واحداً، في حين يتعدّد المعنى الأدبيّ نحو آفاق مغايرة في سياق شبكة من الدلالات المتنوّعة والمتعدّدة التي تخضع لآليّات القراءة وتوجيهاتها واحتمالاتها.
تبدأ الإشكاليّة بالنظر في مفهوم (البنية) بوصفها الأرضيّة التي يقوم عليها النصّ الأدبيّ الحامل المركزيّ لمقولة المعنى، ويتوقّف خطر المعنى على الطريقة التي يتشكّل فيها النصّ بوساطة البنية - شكلاً وهيأةً وتقانةً وأداةً -، ومن ثمّ يتمّ الانتقال إلى (التصميم) الذي تنفتح البنية فيه على جهد معماريّ تشكيليّ يحوّل البنية من طبقة لسانيّة متبنينة حول ذاتها، إلى فضاء يتوسّع الجهد التأليفيّ فيه نحو أرض إبداعيّة متعدّدة الطبقات والمناخات والأجواء والمساحات، وبعد انتهاء حلقات التصميم ينفتح النصّ على (الأيديولوجيا) كي يشحن خطابه بمقولة تعزّز حضور المعنى في ميدان المتن النصيّ، على النحو الذي تتعدّد فيه صورة المعنى وربّما تتشتّت حتّى لا يمكن إخضاعها لمنطقٍ نقديٍّ واضحٍ يتحرّى الدقّة والفصل بين الأنواع. يمكن وصف المعنى في الطبقة الأولى من طبقات الإشكاليّة وهو النصّ بـ (المعنى النصيّ) المقترن بالبنية اللسانيّة الحاضنة والحاوية لمجمل الفعاليّة النصيّة، ويتمّ الحصول على هذا المعنى في سياق (تفسير) اللغة والوقوف على طاقاتها الدلاليّة والتعبيريّة في طبقتها المتجوهرة بين المعنى الخارجيّ والمعنى الداخليّ، وهذه الطبقة الحاملة لهذا المعنى لا يمكن تجاوزها أو إهمالها أو التغاضي عن خطورتها، لأنّ كلّ معنى آخر ممكن سيكون طالعاً من معطفها على النحو الذي تغيب كلّ المعاني الأخرى فيه حين يتمّ تنحيته وتجاهله لسببٍ أو آخر، لتصبح القراءة معلّقة في فضاءٍ غير مضمون وغير منتِج وغير سليمٍ أصلاً.
المعنى الجماليّ هو المعنى الكامن في طبقة اللغة العليا حيث ترتفع اللغة الأدبيّة إلى أقصى شعريّتها وتتأهّل لإنتاج الجماليّات، وهذا المعنى لا يكتمل إلّا بحضور المعنى النصيّ على طرفه الأيمن والمعنى الأخلاقيّ على طرفه الأيسر، ويسهم في الإجابة على سؤال الفنّ الكبير والقائم أبداً وهو: كيف يصل الفنّ إلى المتلقّي؟ وهنا أصبح واضحاً أنّ حضور ثلاثة أشكال من المعنى في احتشاد واحد ومشترك أمرٌ لا بدّ منه ويستحيل تفاديه، ليتحوّل النصّ إلى خطاب ويكون صالحاً للتداول في حضرة التلقّي.
المعنى الأخلاقيّ يكمن في طبقة أخرى من طبقات المتن النصيّ وينطوي على شبكة من الموجّهات التي تساعد القارئ في الوصول إليها وتمثّل معطياتها وآفاقها، ويتطلّب هذا المعنى الأخلاقيّ من المتلقّي فهم الرسالة والإيمان بمضمونها وتعديل الممارسة الحيويّة على أساسها، إنّه معنى أيديولوجيّ له مقاصد ستراتيجيّة وأهداف عامّة لا يتوانى النصّ الأدبيّ عن حملها بجانب ما يفرزه من معنى نصّيّ ومعنى جماليّ، وتعمل هذه المعاني الثلاثة في مرجل أدبيّ واحدٍ مشتركٍ وليس بمعزل عن بعضها، لأنّ أيّ انفصالٍ بين معنى وآخر يسهم عميقاً في تهديم المعاني جميعاً، فالمعنى النصيّ بنموذجه اللغويّ من غير المعنى الجماليّ والمعنى الأخلاقيّ يتحوّل إلى مجرّد قول صياغيّ عديم التأثير ولا معنى له، والأمر نفسه ينطبق على المعنيين الآخرين حين ينفرد كلّ منهما بذاته بعيداً عن المعنيين الآخرين.
إذا كان المعنى النصيّ غاطساً في طبقات اللغة ويتحرّك فيها بحريّةٍ قادمةٍ من قوّة الخبرة والممارسة والوعي والمعرفة والمهارة، فإنّ المعنى الجماليّ معلّق في الطبقة العليا من النظام الشعريّ للنصّ الأدبيّ ولا يمنح نفسه بسهولة من دون حضور المعنى النصيّ بطاقته كاملةً، ومن دون تدفّق المعنى الأخلاقيّ نحو مسامات النصّ في ظلّ مقولة تترشّح من جوف المعنى النصيّ والمعنى الجماليّ، أمّا المعنى الأخلاقيّ فهو معنى ظاهر وفي المتناول لكنّه لا يتبدّى على النحو الأدبيّ المطلوب من غير أن يتحلّى بجوّ النصّ وحراكه الإبداعيّ حتّى يتخلّص من نسخته التعليميّة البسيطة والمباشرة، ويدخل في فضاء أدبيّ متكامل على شبكة المعنى المتعدّد والمتشظّي بين يدي المعاني الثلاثة. المناهج على هذا النحو تدور حول أشكال المعنى وتقدّم شكلاً آخر بما يستجيب لمنطلقات النظريّة ومقاصدها، فإذا كان المنهج البنيويّ يُعنى عميقاً بالمعنى النصيّ في طبقاته اللسانيّة ذات الطبيعة التأليفيّة الأساس المتمركزة حول ذاتها والمكتفية بها، فإنّ التفكيك بوصفه منهجاً نقديّاً ما بعد حداثيّ يُعنى باستنطاق الجماليّات الما بعديّة متفاعلاً مع المنهج السيميائيّ الباحث في مستوى معيّن من مستوياته عن تجلّي المعنى الأخلاقيّ في المدوّنة النصيّة، وهنا يصبح المنهج حاضنة للمعنى في تشغيل أدواته لصالح إنتاج المعنى وتشكيله وإطلاقه، وتستخدم الفعاليّة المنهجيّة في هذه العمليات النقديّة كلّها شبكة من التقانات التي يمكن حصرها في آليّات مركزيّة تتحرّك ضمن أدوات الفحص والمعاينة والحفر والتنقيب والاستخراج والاستثمار والحصاد وغيرها، بما يمكّن القراءة من تحقيق (الإضافة) المطلوبة التي تُنشّطُ خلايا النصّ الأدبيّ وترفع من معنوياته في منطقة القراءة.
لا يتوقّف النشاط القرائيّ عند حدّ معالجة المقروء والكشف عن ممكناته النصيّة على مستوى تحقّق المعنى الأدبيّ، بل يتجاوز ذلك نحو ابتكار المعنى وإضافة طاقات نصيّة جديدة تعبر من فوق مقاصد التأليف، وتنتهي إلى كينونة واستقلاليّة توجّه المعنى وجهةً مشتركة ومقصودة تعبّر بقّوة عن الجوهر الإشكاليّ النصيّ.
الرسالة التي يحملها النصّ الأدبيّ عادة ما تكون مطمورة داخل لغة صعبة تحتاج إلى جهد قرائيّ غير عادي لفكّ شفراتها والتوصل بجوهرها، وهذا الجهد ينبغي أن يكون متحرّكاً في الاتجاهات كلّها كي تستوفي القراءة شروطها ذات الطبيعة الإبداعيّة القادرة على ما نصطلح عليه (الابتكار القرائيّ)، لأنّ التلبّث في منطقة القراءة الاستكشافيّة لمعنىً واحدٍ من المعاني يحول دون الحصول على نتيجة تُذكَر، وأيّ تغيير في بنية اللغة يصاحبه تغيير في المعنى والتصميم الجماليّ للنصّ حتماً.