(ذاكرة الوجع) الروايَّة عندما تمثلُ الواقع

ثقافة 2019/02/27
...

 
  أمجد نجم الزيدي
 
 تعتبر الرواية أحد الفنون الادبية التي تمتلك خاصية مميزة للتعبير عن الواقع الحقيقي، وان كانت تبتني شكلا متخيلا، حيث درجت الكثير من الروايات الواقعية الى محاولة عكس الحياة الانسانية بكل تداعياتها، بتصور انعكاسي يحاول خلق مواءمة افتراضية بين متن الرواية كخطاب ادبي متخيل، والواقع الفعلي الخارجي بكل تشكلاته، حيث يحاول الروائي الواقعي ان يقلل الفارق بينهما، بان يعمل على تحويل روايته الى ما يشبه الوثيقة الاجتماعية أو السياسية أو التاريخية.
لذلك فعند قراءتنا لرواية (ذاكرة الوجع) للروائي العراقي صباح مطر الصادرة عن دار تموز في سوريا عام 2012، فنحن ننطلق من بنيتها التركيبية كفن روائي سردي، يعمل وفق منظومة من العلاقات التي تحددها طبيعة الجنس الروائي، رغم ان الرواية قد بنيت وفق منظور الرؤية الواقعية للأحداث وحتى ضمن التصور العام للأدب الواقعي، من خلال بناء الثيمة والشخصيات وعلاقاتها بالزمان والمكان.
فشخصيات الرواية كـ (بهية ومحمد والخال والراوي) تعكس ذلك التماهي مع الواقع، حيث كان الزمان والمكان اطارين لذلك التماهي، والذي افرز وعيا خاصا للشخصيات بأزماتها التاريخية، ولم تفرط بوجودها كدلالات، حيث كانت (بهيجة) تمثل الفارزة الزمنية التي تربط بين طرفي الذاكرة، التي تأخذ مسارات انشائية في تكوين الاطار البنائي للنص، اما شخصية (الخال) فهي المحرك الرئيسي لوعي الشخصيات ووعي النص في حدود بناء الفعل التاريخي المتحرك، بتصويره لازمة المثقف والبنية الاجتماعية والسياسية المختنقة برماد التقليد والجهل والخرافة، اما شخصية (محمد) فقد اخذت دور الساند للشخصية الرئيسية حيث اقترنت بتمظهرات تلك الشخصية والتماهي معها من حيث البناء والتشكل.
اخذ الزمن الروائي منحا استعادي منذ الصفحات الاولى للرواية على شكل ذكريات رجل محتضر (وهن عظمي ولانت جوانحي وهزل بدني وضعفت كل خلية في، الا ذاكرتي فبقيت تجرني الى عقود طويلة خلت..)ص9، هذا ما يظهره الاطار الزمني العام للرواية، بينما هناك تنوعيات في زمن الخطاب الروائي متوزعة على طول الرواية، تخرق تلك التراتبية الزمنية، او المحاكات للزمن الواقعي، حيث يظهر الاختزال في الزمن، والاستباق او غيرها، فمثلا قول الراوي (انتهى الشتاء ومر الصيف وأتى شتاء اخر وانتهى، مرت الايام متشابهة لا تحمل جديد) ص22، حيث نرى فيه اختزالا للزمن الحكائي على مستوى الخطاب الروائي، وغيرها من النماذج الكثيرة والتي تأخذ عدة اشكال، وهنا يظهر لنا ان الثيمة الواقعية او المحاكات لذلك الواقع، لا تمنع ان تتمثل الرواية الصيغ الفنية للزمن على مستوى الخطاب، رغم ان الرواية بقيت تسير في خط افقي داخل الزمن الاستعادي لتلك الذكرى الى نهاية الرواية، ولم يحدث اي تلاعب في خط الزمن الا في بداية الرواية، وفي مواضع كانت (بهيجة) الشخصية الثانوية هي الفارزة الزمنية - كما اسلفنا- والتي تمثل انحراف الزمن، اذ انها تربط بين زمني النص، وهما زمن الاحتضار والزمن المستعاد، اذ يتنامى الزمن الافقي من طفولة الراوي عندما كان في عمر الخامسة الى لحظة الاستعادة وبصورة تراتبية، وقد ظهرت بهيجة/ الفارزة الزمنية في مواضع عدة من الرواية، كنافذة لاستعادة تلك الذكريات، وربما تلعب دورا اخر مقاربا لهذا الدور، بان تعود بالراوي الى حاضر السرد كما في ص129 مثلا، او مكان اخر من الرواية (انتبهت لهسهسة تقترب، قطعت علي شريط الذكرى، بهيجة، هي بهيجة...) ص150، فهذه الشخصية رغم انها نافذة للولوج الى متن الذكرى المستعادة، الانها بقيت تراوح في حدود هذا الدور، ولم تأخذ لها حيزا فعليا في بناء الرواية، مع انها تمظهرت بعدة مظاهر منها الحبيبة والام، وحاول الروائي ان يصورها في بعض الاحيان بانها هي الذكرى بحد ذاتها، ورغم هذا التصوير لهذه الشخصية، وارتباط الراوي/ الشخصية الرئيسية (زيدون) بها، الا انها لم تشارك بصورة فعلية في بناء الاحداث، حيث اكتفى الروائي بوضعها في هذا الدور الذي تفتقر فيه للصورة الذاتية المستقلة، كما في شخصية الام مثلا، او الخال او محمد.
يبدو لي ان رواية (ذاكرة الوجع) للروائي صباح مطر، انساقت وراء الصورة التقليدية، التي تحكم الكتابة الواقعية، بالإضافة الى بناء الشخصيات وادوارها داخل اطار زمكاني ثابت، يسير عبر خط السرد بتراتبية، وان حاول الروائي في هذه الرواية ان يحرك هذا الخط، وان يزحزحه قليلا عن مكانه، من خلال بناء متنين/ زمنيين مختلفين، هما زمن حاضر السرد والزمن المستعاد، حيث كانت بهيجة هي الفارزة الزمنية الفاصلة بينهما بدورين مزدوجين هما الذهاب والعودة. ولكن في النهاية ان الحكم على النص بمدى واقعيته؛ هو دوران في فلك تقيمي، يوقع النص وكاتبه بين كماشة الخطأ والصواب، وهما حكمين نابعين من رؤية خارجية عن النص وتراكيبه البنائية وعلاقاتها السردية كفن روائي، فإخضاع هذا النص الى هذا المنحى من التقييم هو اغفال لبنيته الفنية واشتراطاتها، لذلك فكل نص يتبنى منحا واقعيا لا يمكن باي حال من الاحوال عده وثيقة واقعية، بل انه عمل متخيل، ليس بمعنى ان الاحداث غارقة بالخيال، وانما الاحتكام الى الشروط الفنية للفن الروائي كجنس متخيل، وعدم الركون الى الاحكام القسرية التي يمليها الواقع او السياق الواقعي في بعض الاحيان.