عفاف مطر
أغنية فوق النخل هي في الأساس تنزيل ديني للملا عثمان الموصلي، لكنها تحولت في ما بعد من أغنية دينية الى أغنية حب وعشق غناها أشهر المطربين العراقيين والعرب، رواداً وشباباً، في الأساس كانت تُعرف بأغنية (فوق العرش) وهي من مقام الحجاز وتقول كلماتها: (فوق العرش فوق، سيدي فوق العرش فوق، معراج أبو ابراهيم سيدي، فوق العرش فوق، هادي الاكوان كشاف البلوى) وكانت تغنى في المواليد والتنزيلات الدينية، وفي حلقات الذكر، واشتهرت كثيراً وأحبها البغداديون وغيروا كلماتها، من فوق العرش الى فوق النخل، وكان ناظم الغزالي أول من غناها وسجلها في بيروت ووزعها الفنان الراحل جميل بشير لتزداد شهرة الأغنية وتصل الى العربية، غناها بعد ذلك المطرب السوري صباح فخري، لكنْ لاختلاف اللهجات، كان فخري ينطق كلمة النخل بكسر الخاء واللام المخففة، بينما ينطقها الغزالي بفتح الخاء واللام الثقيلة حسب اللهجة العراقية.
وأنا أؤكد لكم أنها بفتح الخاء، فالنخلة؛ نخلة عراقية خستاوية لا شكّ في ذلك. تذكر مصادر التراث أنَّ البيوت العراقية القديمة التي كانت تعرف بالحوش، كانت تحوي أكثر من طابق، وكان بعض أصحاب هذه البيوتات يؤجرون بعض الغرف لـ «الزكرتية» بعد أنْ يتأكدوا من أخلاقهم وبضمانة مختار المنطقة ويسكنون معهم في البيت نفسه، وتذكر بعض تلك المصادر أنَّ أحد هؤلاء الزكرتية، رأى فتاة جميلة تطلُّ من شباكها في الطابق العلوي فأُعجب وأُغرم بها، ولأنه لا يستطيع محادثتها، كان يدندن في الحوش مغنيّاً: (فوق النا خل فوق مدري لمع خده مدري لمع طوق)، بمعنى أن الخل هو حبيبته التي تسكن في الأعلى، وهذه بعض التفسيرات لسر تحويل الأغنية، والتفسير مفتوح للمتلقي في أنْ يفهمها كــ»فوق النخل» أو «فوق النا خل». الملا عثمان الموصلي كان متصوفاً وموسيقاراً، وكان يغني هذه الأغنية بنسختها الدينية في العديد من البلاد العربية، إذ إنَّه لم يُدرِس في العراق فقط، بل دَرَسَ الموسيقى والغناء في الاستانة وفي بلاد الشام ومصر، وكان قارئ قرآن لدى السلطان العثماني عبد الحميد، حينها كانت الحدود بين البلدان العربية في العشرينيات من القرن الماضي كانت مفتوحة، ما ساعد على انتشار الأغنية في نسختها الأولى. عندما جاء المايسترو الألماني هانس مومن الى العراق في السبعينيات أعجب بالنسخة الجديدة من الأغنية والتي غناها ناظم الغزالي الذي كان يعد السفير الثاني لهذه الأغنية بعد الموصلي، وحول مومن الأغنية الى قطعة موسيقيَّة عزفتها الفرقة السمفونيَّة على أكبر المسارح، وهي الآن تعدُّ معزوفة عالميَّة، وغنتها فرق صينيَّة وصربيَّة وأميركيَّة وأرمنيَّة وغيرها كثر، وعزفها عمر بشير مع الفرقة الصربيَّة في أحد المهرجانات، وباتت إرثاً يتميز به الطابع العراقي.
ويعزو البعض سر نجاح وانتشار الأغنية الى لحنها القائم على مقام الحجاز، لأنَّ هذا المقام يعدُّ من أكثر المقامات المؤثرة في نفوس العراقيين خاصة وغير العراقيين بصورة عامة، لأنه من المقامات الشجية والتي يقرأ فيها القرآن في أحايين كثيرة.
أغنية فوق النخل توازي دلعونة التي يتميز بها أهل لبنان، والميجنة التي يتميز بها أهل بلاد الشام والطقطوقة في مصر. بيني وبينكم وبالرغم من انتشار الأغنية العراقية في السنوات الأخيرة على مستوى عربي واسع، إلا أني أعدُّ هذه الأغنية كانت وما زالت (فوق النخل) والأعلى.