تبقى جدلية العلاقة بين التنمية والواقع الديمغرافي قائمة مادام نجاح التنمية مرتبط بمعرفة حجم السكان وتوزيعهم الجغرافي على الخريطة العراقية ،كما انه الأساس الذي يفترض أن يعتمد عليه صناع القرار في الوصول إلى مؤشرات حقيقية تفسر الإشكالية القائمة في الاقتصاد العراقي ،فهذه العلاقة مترابطة ومؤثرة في بعضها البعض فلا يمكن بناء تنمية ناجحة من دون توفر احصائيات حقيقية عن السكان، إذ يعد العامل الديمغرافي العامل الحاسم في التغير الاجتماعي والثقافي في المجتمع.
إن إلقاء نظرة على الاقتصاد العراقي وفهم واقعه واشكالياته على الأصعدة المختلفة وارتباط ذلك بظواهر اجتماعية كثيرة في المجتمع، يجعل الدولة اليوم أمام حقائق تحتاج إلى تحليل وتفسير ووضع السياسات والتشريعات اللازمة لعلاجه، إذ يعد هذا الواقع الديمغرافي ركيزة أساسية في فهم حاجات الجماعات الإنسانية ، ولعل تحديد مقاربة ناجحة في هذا الصدد، يمكن أن يكون السبيل الأكثر فعالية في فهم الموضوع والخروج بنتائج علمية تفيد المجتمع، بالاعتماد على الجهود المبذولة من قبل الباحثين في الاختصاصات المختلفة في رسم ستراتيجية تنقل المجتمع نحو غد أفضل.
إن ذلك كله مرتبط بقضية مركزية هي أن التنمية السبيل الوحيد الذي سيقود البلد إلى مرحلة الاقتصاد المنتج، وتخليصه من حالة الاقتصاد الريعي، فحاجات الإنسان العراقي في تزايد مستمر، ولا يمكن الوصول إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي من دون أن يكون لدينا اقتصاد منتج في القطاعات المختلفة ابتداء من الزراعة ومرورا بالخدمات والصناعة، مع ضرورة العمل المخلص الهادف في توظيف الكفاءات الوطنية القادرة على مواجهة تحديات المرحلة المقبلة، فلا يزال فهم الاحتياجات الإنسانية المتزايدة، يمثل الطريق الأكثر سهولة لتأسيس اقتصاد وطني منتج يلبي حاجات الإنسان وحصر المستورد في نواحي معينة ، وبما تحتاجه عجلة الصناعة والزراعة من أدوات فضلا عما يحتاجه قطاع الصحة.
إن التنمية البشرية المطلوبة اليوم، ينبغي ألا تخطط للأجيال الحالية فقط إنما للأجيال التي لم تلد بعد ، بحيث تكون متوافقة مع ما وضعته الأمم المتحدة من المبادئ والمؤشرات للتنمية في الألفية الثالثة،حتى سنة 2030 لتحديد درجة تطورها ونهوضها، وعليه لا يمكن تحقيق خطة تنموية من دون أن تكون هناك رؤية اجتماعية وثقافية واضحة للمرحلة الانتقالية التي يمر بها المجتمع العراقي واقتصاده المأزوم،لان ذلك ينطلق من حقيقة دامغة تتصل باحتياجات الإنسان المختلفة التي لا يمكن إشباعها في ظل المعطيات الموجودة على الساحة العراقية، لاسيما وسط الانقسامات الفئوية والطائفية والعرقية الحالية والمرتبطة بأطماع هذه الإطراف كافة،لذا فان عملية التحول الحضاري التي ينشدها الإنسان العراقي، تواجه تحدي الاقتصاد المنتج الذي يفتقده العراق في المرحلة الحالية ،وهو ما يظهر واضحا في السوق العراقي وبكل اختصاصاته السلعية من الغذاء إلى الملابس إلى التكنولوجيا إلى كل شيء ،من دون أن يستطيع تحقيق أي خطوة على طريق النهضة المطلوبة.
إن الدولة في المرحلة الحالية تحتاج إلى قاعدة بيانات دقيقة عن حجم السكان والبنى التحتية من اجل تحديد مسار علمي لإجراء تنمية اقتصادية شاملة إلا أن الإشكالية التي ينبغي على صانع القرار حلها لا تزال تصطدم بمعوقات اجتماعية وسياسية عدة، لذا فان التنمية إمامها تحدٍ ضخم ، يتمثل بمدى قدرة الدولة العبور إلى مرحلة الاقتصاد المنتج، فهو تحدٍ ليس بالهين لان التركة الثقيلة التي ورثتها الدولة العراقية بعد عقود من الحروب لا تزال تترك أثارها السلبية في أي خطوة باتجاه التنمية فضلا عن تفشي الفساد بشكل واسع في الحلقات الرئيسة التي ينبغي أن تكون هي التي يقع على عاتقها القيام بالتنمية .
إن التنمية في العراق إمام امتحان صعب يتطلب تهيئة الإنسان وتأهيله معرفيا وفنيا من اجل تخليصه من حالة الوهن والانكسار واليأس على أن يتم ذلك عن طريق إعداد برنامج وطني شامل،يفضي إلى بلورة ثقافة مجتمعية عمادها المعرفة والمسؤولية الأخلاقية تجاه الوطن وأجياله القادمة، بعيدا عن الانقسامات السياسية والمصالح الضيقة.
إن الإنسان اليوم بحاجة ماسة إلى خطوة ستراتيجية تعيد الثقة إليه وتخرجه من قوقعته الاجتماعية والثقافية وحالة اليأس التي تنتابه ،إلى مرحلة أكثر تفاعلا وأكثر صلابة في بناء بلده، كما أن الأمل معقود بالأجيال الجديدة التي ينبغي أن تأخذ زمام المبادرة في التنمية البشرية على نطاق البلاد بكاملها.