أ.د. مها خيربك ناصر
يفيض السؤال عن ذاته في كلّ لحظة تجلٍ إبداعيّ، فيحرّض السؤالُ السؤالَ على معرفة العلاقة بين الفكر واللغة، فالفكر يخصّب فاعليّة اللغة، واللغة تحتضن فعل الفكر، فلا لغة من دون فكر يمنحها القدرة على النطق والتعبير والتصوير، ولا فكر من دون لغة تنطقه، وتعبّر عنه، وترسم تصوراتِه وجموحَها وقلقه وهدوءه وأسراره وبعضًا من فيض عطاءاته.
تأسيسًا على هذه الفرضية الخاضعة للقبول أوالنقض يمكن القول إنّ الفكر واللغة يتناطقان، فلا لغة من دون فكر، ولا يتجلى الفكر من دون لغة ينطقها؛ لتعبّر عن جوهر انتمائه إلى فضاءات الرؤيا حيث يتم التلاقي بين الذات الواعية وجوهرها، فتتوحّد الروح المبدعة والكون، ويذوب الذاتي بالكوني في عملية تجلٍّ لغويّ تفصح عن حركة الفكر الهادفة إلى كشف ما هو مجهول و معرفة أسراره ومعانيه المُستبطَنة، فتعكس اللغة القدرة العقلية المُدرِكة، باحتجابها، حركةَ الكون، وبها يكون التأسيسُ لفعلٍ، غايتُه التحوّل من اللامعرفة إلى المعرفة، فتنكشف إنسانية الإنسان المتحرر من محدودية الزمان والمكان الساعي إلى تجاوز حدود النسبيّة إلى الكونيّة المطلقة.
تتعاضد اللغة والفكر فيفعّلان عمليات التلاقي الإنسانيّ، ويُقاطعان نتائجها، مدّاً وجزراً، على مرافئ الوجود الإنساني، وبالتلاقي والتقاطع تتعدّد المستويات بين الإيجاب والسلب، وتتنوّع التسميات والمصطلحات، ولكنّها مهما تباعدت أو تناقضت أو تعدّدت فسوف تكرِّس على كلّ شاطئ مركز عبور للبحث والاستقصاء والكشف والتأسيس، لتظلَّ هذه الحركات مراكز إشعاع وإضاءة تنير الطريق أمام المجنحين برغبة المعرفة.
ينتج تناطق الفكر واللغة معارف إنسانيّة كونيّة تجمع وتوحّد، بوصفها معارف متحرّرة من قيود الأنا القاصرة عن ملاقاة غيرها، ومن حدود الجغرافيّة والإذلال السياسيّ، ومن القمع الدينيّ ذي السيف المُفتِت وحدة العلاقة بخالقٍ واحدٍ لا يتعدّد ولا يتناقض مهما تعدّدت رسالاته، لأنّ هذه المعارف تتوحّد بنور الألوهة الإبداعية الأبدية التي تتعالى على الحدود والتقسيمات العشائرية والطائفية والإقليمية وتؤمن بوحدة الجوهر الأزلي الأبديّ.
بهذه الألوهة اتسم فكر أرسطو وسقراط وإبراهيم وموسى والمسيح ومحمّد؛ فقدّم كلٌّ منهم للبشرية فكرًا إنسانيًّا خاطب الوجدان والروح ونأى عن الذاتيّة، فلم تكن رسالة أيّ نبي مفكّر أو فيلسوف أو عالم حكرًا على شعبٍ أو جغرافيا؛ لأنّ للمعرفة أسرارًا تتجاوز جهوزية الظاهر وتقسيمات البشر، وتسمو فوق الماديات؛ لتخاطب صفاء الفكر الروحيّ وحكمة العقل وحرية الوجدان والمتوحدة جميعها في حقيقة الوجود الإنساني الفاعل، والمنصهر في أزلية تنبذ التباغض والتناحر.