صناعة المحتويات الرقميَّة والتحوّل الديمقراطي في العراق

علوم وتكنلوجيا 2021/10/11
...

د. صفد الشمري *
بدأت صناعة المحتويات الرقمية تمارس دوراً أساسياً في إعادة تشكيل الثقافة العامة للمواطنين على مستوى العالم، الأمر الذي عزز من فكرة تأكيد فاعليتها في إعادة بناء القيم المساندة للتطوير والتحديث في المجتمعات،من قبيل: قيم المساواة والقبول بالآخر، وكذلك الاختلاف معه، وأخذت تتصدى لوظيفة كبرى، غير تلك الوظائف التقليديَّة المعروفة للإعلام في الإخبار والإرشاد والتعليم، ومن هن في حكمهن..
 
إذ يقف المختصون على مسافة واحدة من الحقيقة التي تفيد بأنَّ تلك الصناعة الاحترافية تهم بوظيفة حضارية اليوم، لما تمارسه من إسهامات في ممارسات التطور الحضاري برمته، حين يكون من نتاجاتها أنْ تقف استخداماته وراء أغلب المتغيرات التي اتسم بها المجتمع السياسي المعاصر، وكان آخرها التحولات الديمقراطية التي اقتحمت المنطقة وما تبعها من مشاريع تندرج ضمن ممارسات الديمقراطية، ومن بينها الإصلاح، الذي يُروّج له على المستوى العربي بأجمله، كونه اشتمل على معظم الممارسات الديمقراطية التي تطرحها بقوة اليوم الأدبيات السياسيَّة العالميَّة المعاصرة.
 
في مقابل التحدي
جوبهت الطروحات النظرية المتعلقة بالممارسات الديمقراطية، التي أسس لمعظمها عند الغرب، بتحديات وانتقادات كبيرة في حال بدء الأخذ بها على أرض الواقع في مجتمعات غير تلك التي انطلقت منها، وفي رأسها مجتمعاتنا العربية ومنها العراق، لدوافع سياسية واجتماعية وحتى دينية.
من حيث المبدأ.. يُنظر إلى التحوّل الديمقراطي من قبل المختصين بالنطاق السياسي على أنه: “التحوّل إلى حالة سياسية إيجابية، تتجسد مقوماتها في التداول السلمي للسلطة من خلال الانتخابات ومراقبة سلوك الحكام والتعددية السياسية، وهي بمنزلة مرحلة الوسط بين نظامين، سلطوي وآخر ديمقراطي”.
وبذا يمكن أنْ يحدث التحوّل الديمقراطي في أي نظام سياسي، نتيجة إدراك القيادة السياسية فيه بأهمية إحداث الإصلاح، أو نتيجة التوصل إلى صيغة توافقية بين النخب السياسية والاجتماعية حول إجراء خطوات إصلاحيَّة، وتنوّه الدراسات بإمكانية أنْ يحدث الإصلاح والتحول نتيجة تآكل النظام السلطوي نفسه، ما يحفز المجتمع للضغط من أجل إحداث هذا التحوّل، ومن هنا يمكن القول إنَّ الإصلاح السياسي يعني مرور النظام السياسي بعمليات تغيير واسعة، بحيث يكون التحوّل الديمقراطي أحد أوجه الإصلاح الشامل.
 
مضامين الإصلاح
أفصحت مطالب الإصلاح التي بدأت تواجه معظم الدول العربية ومنها العراق في غضون السنوات الأخيرة عن نفسها من خلال تظاهرات واحتجاجات واعتصامات أو مطالب سياسية وشعبية، وعن طريق الوسائط الرقمية المتعددة.
إنَّ طرح تلك المطالب في هذه المرحلة بالذات عزز من الدعوات المنطلقة من الداخل العربي، على الرغم من اختلاف رؤى البعض من الطرفين في طرق الإصلاح ومناهجه ومراحله وتوقيتاته، حتى أنَّ بعضاً منها كان نتاج نسق مشترك بين المطلبين الخارجي والداخلي للإصلاح، بينما كان البعض الآخر بمنزلة رد فعل داخلي مضاد من قبل النخب والكتل السياسية والحزبية والمطالب الشعبية.
بينما كانت مطالب الإصلاح الخارجية الصريحة التي واجهت المنطقة العربية من خلال دعوات مباشرة، تركز على إقامة توافق بين البلدان العربية ومجتمعاتها، مع المصالح والسياسات الدولية في المنطقة، لا سيما في الجانب الاقتصادي، فضلاً عن دعوات إصلاح أوروبية، قدمت على شكل مبادرات، ركزت على قيام شراكة أوروبية عربية.
وما بين مطالب الداخل والخارج في الإصلاح، عزز من الإشكالية التي واجهته على أرض الواقع في البلدان العربية بشكل عام، انقسام الرؤى في مفهوم ووظائف العملية الديمقراطية وممارساتها بشكل عام في المجتمعات المختلفة الخاضعة لآيديولوجيات وعقائد متباينة، وفي عمليتي المقاربة والمقارنة لإطاري الديمقراطية النظري والتطبيقي، بوقت يستمر فيه الجدل القائم بشان أهمية عامل التدخل الخارجي من عدمه في هذه العملية، ويزيد من حدّة هذا الجدل النزول تحت وطأة ما عرف بالعولمة السياسيَّة.
تلك العولمة التي تشير في أحد معانيها إلى “بلوغ البشرية مرحلة الانتقال الحر للقرارات والتشريعات والسياسات والتفاعلات عبر المجتمعات والدول، وبأقل قدر من القيود والضوابط، وزيادة غير مسبوقة في روابط الدول على نسق الزيادة غير المسبوقة في الروابط الاقتصادية واقتصاديات العالم”، وبروز المجال السياسي العالمي، الذي أخذ ينزل تدريجياً محل المجال السياسي المحلي أو الوطني، ويعني ذلك بروز مجموعة من القوى السياسية الجديدة التي أخذت تنافس الدول في سيادتها المطلقة، مثل الاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية المشتركة، وبروز المنظمات التجارية والاقتصادية والمالية العالمية، التي بدأت تلغي هي الأخرى بالتدريج مفهوم السيادة المطلقة، وهو يعني كذلك أنَّ الاتجاه العام يسير نحو أنْ تأخذ القوى الجديدة في منافسة (الدولة) في مجال تحكمها التقليدي.
وتشير الباحثة العربية في شؤون الإصلاح ثناء فؤاد عبد الله في بحثها “الإصلاح السياسي خبرات عربية الى : “أنَّ التمهيد الغربي للإصلاح السياسي وما أعقبه من طرح لمشروعات دوليَّة مختلفة، أوجد إشكالية في مدى التداخل ما بين الديناميات الداخلية لعمليات الإصلاح السياسي، والمؤثرات الخارجية الدافعة للتغيير، وجعل من الصعوبة وضع آلية واحدة للإصلاح السياسي، تخضع لها جميع المجتمعات، إذ تأخذ كل حالة طابعاً إيديولوجياً يرتبط بطبيعة المجتمع، وتركيبته اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، إلا أنَّه يمكنه القول إنَّ هناك ملامح عامة للمؤسسات والأدوار والأبنية والسلوكيات والتفاعلات والقيم، التي يمكن أنْ تنتج حالة ديمقراطية”.
وهو ما نرى أنه يمكن التأسيس عليه لتحقيق فهمٍ متوازنٍ للإصلاح، يرتبط بشكلٍ وثيقٍ بنشر ثقافة سياسيَّة ديمقراطية، تحقق المعادلة الصعبة المتمثلة بمتغيرين اثنين، يتمثل الأول بضرورة دعم الثقة السياسية بين المواطن العربي ونظامه السياسي، ويتموضع الآخر في حق المواطن العربي في نقد السلطة، وضمان ممارساته الديمقراطية.
 
التوصيات المعطلة
وفي ظل تلك التقاطعات وما خلفته من جدليات، ناقشت مؤتمرات وندوات عربية متعددة مشكلة الإصلاح السياسي وبحثت في ماهيته وآلياته وترتيب أولوياته وتحديد المطلوب إصلاحه، ومن سيقوم به، وهل أنَّه يبدأ من القمة أو من القاعدة، وهل الإصلاح السياسي يأتي أولاً، أم يمكن لبقية أنماط الإصلاح أنْ تسبقه.. ودور موضوع البحث العلمي منه وكونه جزءاً من المشكلة وجزءاً من الحل في آنٍ واحد، والحاجة إلى الاهتمام بالإنفاق على جانب البحث العلمي والأكاديمي.
وأجمعت تلك المناقشات على أنَّ الحدود المنتهكة، ومشكلات التنمية، وغياب الاقتصاد القوي الذي يمكن الاعتماد عليه، وعدم الاستقرار في السياسات المختلفة والتوتر السياسي وغياب المشاركة السياسيَّة ينتج عنها واقع بحاجة فعلية إلى إصلاح، وأن إحدى المشكلات الأساسية فيه تكمن في جدلية حدود مفهومي التقدم والتخلف، وأثرهما في المجتمعات السياسية، ولم تتمكن أغلب تلك الندوات إلا من التوصية بانتهاج سبل واقعية يمكن أنْ تفضي الى الإصلاح في مستقبل ما زال في معظم البلدان غير منظور، ومن هذه التوصيات: العمل على نشر ثقافة حقوق الإنسان في دول العربية، والدأب في مطالبة الحكومات بالموافقة على تفعيل مؤسسات حقوق الإنسان لجميع نشاطاتها ومهامها من دون أنْ تتعثر من جراء الإجراءات المانعة من قبل الحكومات العربية.
ومن التوصيات الأخرى، أنْ تعمل هذه المؤسسات على أحياء النقاش على المستوى الإعلامي والرقمي، وفي جميع الوسائل المتاحة، مع التأكيد على إعادة النظر في ضرورة مراجعة النظم التعليمية والثقافية وإصلاح حقوق الإنسان وإضافة مادة حقوق الإنسان في المدارس والجامعات، وضرورة أنْ تقوم هذه المؤسسات والمنظمات الحقوقية بالدفاع عن حقوق المرأة في العمل العام وبضرورة أنْ يكون للمرأة دورها الفاعل في عملية الإصلاح والديمقراطية في هذه الدول.
والمطالبة بإنشاء شبكة رقمية تضامنية في العالم العربي تكون مهمتها ممارسة الضغوط على الحكومات من ضغوط إعلامية وقانونية وتظاهرات سلمية في حالة قيام أي حكومة باعتقالات في صفوف نشطاء سياسيين أو حقوقيين أو أصحاب رأي، والاهتمام بدور المجالس المحلية والشعبية ومؤسسات المجتمع المدني في قضية الإصلاح، فضلاً عن التوصية بالاهتمام والشروع بعمل دورات تدريبيَّة لناشطي حقوق الإنسان في كيفية تفعيل دور المحكمة الجنائية الدولية وفهم آلية اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية وكذلك آلية رفع الدعوة للتظلم من أية إجراءات تعسفيَّة أو استثنائيَّة وغير قانونيَّة تصدر من قبل السلطات الحاكمة أو الحكومات العربية من قهر أو استلاب للحريات.
 
الحدود الممكنة
تشكّل المنظومات الرقميَّة كياناً بذاته، يكون تنوعه استجابة لتنوع الواقع الموضوعي للمجتمع وتعدد الحاجات فيه، والأهداف والوظائف المطلوب تحقيقها في المجالات المختلفة، وفي الأوقات والأمكنة والأساليب المختلفة.. لذا، تكون مسألة حريات الإعلام والاستخدام الرقمي دعامة قويَّة من دعامات التحوّل والإصلاح، بل وقضيه مهمة من قضاياه، إذ إنَّه يمكن أنْ يتعامل مع أحد أبرز التحديات التي تواجه التغيير الاجتماعي، الناجم عن إجراء عمليات الإصلاح، وزيادة المشاركة الشعبية في الأنشطة العامَّة، والمتمثل بما يمكن أنْ يؤدي ذلك إلى زيادة حدة الصراعات الاجتماعيَّة بسبب ضعف قيم المجتمع التقليدي، وتآكلها تحت وطأة زيادة معدلات التعلم والتحضر، وهو ما يؤدي إلى وجود قيم جديدة، تحل محلها.
وفي أثناء عملية التغيير، فإنَّ تغيير الولاء السياسي إلى الولاء الوطني مثلاً، لن يكون مهمة سهلة، إذ إنَّ البنى السياسيَّة التقليديَّة تظل مؤثرة في أنماط السلوك لمدة طويلة، كونها عميقة الجذور في المجتمع، وعندها يبرز دور الأوعية الرقمية بما تضمه من محتويات رصينة.
 
المبتغى المأمول
إنَّ الدور المنتظر من الأوعية الرقميَّة في بناء القيم المساندة للتطوير التي تساعدنا في تحقيق الإصلاح وصولاً إلى تحول ديمقراطي واسع، يجب أنْ تمهد له خطوات فاعلة لرفع مختلف آثار وأشكال الهيمنة الحكوميَّة عن وسائله، وضمان حريات ممارسة صنّاع المحتويات الرقمية لمهامهم من دون تدخل السلطة، لما في ذلك من أهمية في دعم النظام الديمقراطي، والتجسيد الواضح لحرية التعبير، بوصفها الدعامة القوية للشفافية، عبر إصلاح التشريعات المرتبطة بحريات الرأي ودعم تنظيم الاستخدامات الرقمية، وفي حينها تكون مسؤولية إيجاد “حلول الوسط” في جميع الإشكاليات التي واجهت طروحات ومشاريع الإصلاح، وضع برامج وستراتيجيات إعلامية رقمية لتدريب صنّاع تلك المحتويات وتنظيم مهاراتهم، يكون للنخب الأكاديميَّة والإعلاميَّة والسياسيَّة والثقافيَّة دورٌ رائدٌ فيها.
 
* خبير التواصل الرقمي