فرص المجال الرقمي العراقي في حماية {الأقليات}
علوم وتكنلوجيا
2021/11/10
+A
-A
الدكتور صفد الشمري *
حين تشكل دعوات الإلتزام بضمانات حريات التعبير تفويضاً غير معلن لخطابات الكراهية، تحت مسمى حق الفرد في الإبداء عن الرأي من دون قيود، وتحت ضغط مجال رقمي محلي فضفاض، به أشد حاجة لمعايير الضبط والتوجيه، يكون يسيراً للمضامين الرقمية غير الملتزمة بالمسؤولية الاجتماعية استهداف أكثر الشرائح العراقية تعرضاً للمعاناة: وهي الأقليات.
لقد عادت الأحداث التي مرت فيها البلاد بأثرها البالغ في تهديد وجود تلك الأقليات، وكانت الموجة الأكبر التي واجهت أفرادها سيطرة المجموعات الإرهابية على عددٍ من المدن في حزيران 2014، حين تعرض الكثير منهم إلى جرائم الإبادة الجماعية والاعتداءات ونهب الأموال والمقتنيات، وتطلب ذلك بالمقابل بأنْ يجري توظيف مضامين الأوعية الرقمية العراقية في مجال حماية تلك الأقليات، على وفق مناهج وطرائق وأساليب فاعلة ومتعددة، في وقت مارست فيه بعض هذه المضامين دوراً في التضييق على الأقليات.
إنَّ مثل تلك الهجمة المنظمة التي تعرضت لها الأقليات وما تركته في نفوسهم من آثار، تتطلب توجيه المجال الرقمي العراقي نحو حماية الأقليات وكشف الانتهاكات التي تعرضوا لها للرأي العام الدولي، كما كان ينبغي أنْ تكون هناك صناعة رقمية إقناعية ومؤثرة تعتمد الشروط المنهجية في تحقيق أهدافها، شرط التزامها بعدد من المعايير، ومنها ما يرتبط بوضوح المحتوى الرقمي الذي بات يشكل عنصراً فاعلاً في دعم القضايا المصيريَّة على مستوى العالم.
الرقمنة والأقليات
في وقت شددت فيه المبادئ الدولية على أهمية إسهام وسائل الإعلام بشكلها التقليدي في دعم السلام والتفاهم الدولي، وأنْ يجري تعزيز حقوق الإنسان ومكافحة العنصرية والفصل العنصري والتحريض علي الحرب وتداول المعلومات بحرية ونشرها على نحو أوسع وأكثر توازناً، فإنَّ دور المجال الرقمي يبيت أكثر أهمية بعد أنْ صارت أوعيته متاحة للجميع، أي أنَّ مهمته صارت تفوق ما كان يُنتظر من الإعلام التقليدي القيام به مع قضايا وحقوق الأقليات.
وإذا كان يتوجب على وسائل الإعلام أنْ تقدم إسهاماً أساسياً في هذا المقام، مع ضمان حصول الجمهور على المعلومات عن طريق تنوع مصادر ووسائل الإعلام المعدة له، وأنْ تستجيب لاهتمامات المجتمعات والأفراد، فإنَّ الأمر يكون أكثر خطورة مع الأوعية الرقمية باستخدامتها المتعددة ومضامينها المختلفة حين صارت متاحة من دون استثناءات أو محددات أو ضوابط، للحد الذي صارت فيه إمكانيات تكريس نزعة الميل الى الخطابات الضيقة التي تمثل فئات محدودة للغاية، وهو ما أسهم في زيادة التصدعات داخل المجتمعات، لا سيما تلك التي خاضت الصراعات، ومنها مجتمعنا العراقي.
نعم، ينظر إلى قضية نشر الوعي بالحقوق وتوفير الحريات على أنها من بين أهم القضايا المعاصرة المطروحة على المستوى الدولي، وتؤكد اليونسكو أنَّه ينبغي لواضعي سياسة الإعلام والاتصال أنْ يوجهوا اهتماماً أكثر لأوضاع الديمقراطية وحماية حقوق المواطنين، وبخاصة الأقليات، وتوضع الضوابط التي تحاول أنْ تقوض من فرص الالتفاف على تلك المتطلبات حين كان ممكناً رصد خطابات جميع الوسائل وتحديد مرجعياتها، إلا أنَّ خطورة مثل هذا الالتفاف أصبحت أكثر قسوة مع الأوعية الرقميَّة التي تغيب فيها جميع محددات تقييد ورصد العمل الإعلامي التقليدي.
إنَّ حريات القول والصحافة والإعلام والانترنت والتجمع من الحريات الأساسيَّة لممارسة حقوق الإنسان، وإنَّ توسيع هذه الحريات المتعلقة في مجملها بالاتصال مبدأ من المبادرة المتطورة في مفهوم الديمقراطية وفي حقوق الإنسان التي ينبغي توكيدها، ويعدُّ الدفاع عن جميع هذه الحقوق واجباً من الواجبات الأساسيَّة للدولة، ومن هنا تنطلق أهمية وجود معايير تحديد مسارات مثل هذه الحريات، وألا يجري توظيفها في مجالات الإيغال في العنصرية والتطرف، تحت بند حق الأفراد في إبداء آرائهم، فمثل هذا الإبداء يجب ضبطه بما يمنعه من الخوض في خطابات الكراهيَّة، وهو أشد ما تعاني منه أقليات العراق.
تجمع التشريعات الدولية بضرورة توفير ضمانات لحريات مستخدمي الانترنت الذي تقدم مضامينه الملتزمة بالقيم المجتمعية والديمقراطية إسهاماً مهما في دعم السلام والتفاهم الدولي وفي مكافحة العنصرية والفصل العنصري، عن طريق نشر المعلومات عن مطامح جميع الشعوب وتطلعاتها وثقافاتها ومتطلباتها، وإزالة الجهل وعدم فهم الشعوب لبعضها البعض، وتوعية المواطنين في كل بلد باحتياجات البلاد الأخرى وتطلعاتها، وكفالة الاحترام لحقوق وكرامة جميع الأمم وجميع الشعوب وجميع الأفراد من دون تفرقة بسبب العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الجنسية، واسترعاء الانتباه إلي الشرور الكبرى التي تكدر الإنسانية كالبؤس وسوء التغذية والمرض.
ويمكن للانترنت أنْ يسهم في تحسين وضع حقوق الإنسان في المجتمعات، وفي مقدمتها حقوق الأقليات وحمايتهم، عن طريق الكشف الفوري للانتهاكات التي يتعرضون إليها، والوقاية من انتهاكات تلك الحقوق التي حددها المختصون على وفق ثلاثة محاور، يمثل الأول التوعية بهذه الحقوق، والتعريف بها ونشرها على أوسع نطاق ممكن، من منطلق أنَّ الوعي بالموضوع هو الأساس في إقراره عملياً، وترسيخه في السلوكيات على المستويات كلها.
ويجسد المحور الثاني دعم وتعزيز تلك الحقوق بأنواعها كافة، وفي المجالات المتعددة المرتبطة بها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ودينياً وتعليمياً وغير ذلك، بينما يتمثل المحور الأخير بالكشف عن حالات انتهاكات تلك الحقوق، ومخاطبة الرأي العام المحلي والعالمي، لحشد مساعي الدفاع عنها ومواجهة الانتهاكات التي تتعرض لها، وتوضيح طرائق المواجهة، وتوظيف الرسالة الإعلامية في خدمة تشكيل رأي عام، مساند لهذه الحقوق على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
وترى الدراسات المعنية بحقوق الإنسان والأقليات أنَّ هناك عدداً من الاعتبارات يمكن لها أنْ تسهم في تفعيل دور الانترنت بمجالات تناول حقوق الإنسان وحماية الأقليات، تتحدد بالتأكيد على أهمية الدور الرقابي للجهات المعنية في حماية حقوق الإنسان، ودعم المؤسسات في نواحي تبني خطابٍ يسهم في إشاعة ثقافة هذه الحقوق، باستخدام الوسائل التقنية الحديثة المتاحة، وعلى أشكال متنوعة، إلى جانب تركيزه على نشر المبادئ والمعايير والاتفاقات والتقارير الدولية المرتبطة برصد الحقوق وحمايتها وتنظيمها، والتأكيد على أهمية تدفق المعلومات الحر، ووضع القواعد التي تشدد على أهمية احترام الرأي الآخر.
النظرة الأمميَّة
جاء في إعلانٍ للجمعيَّة العامة للأمم المتحدة أواخر 1992 حول حقوق الأشخاص المنتمين الى أقليات قومية أو إثنية أو دينية أو لغوية ما يمكن عده مؤشرات عامة أو خارطة طريق لعمل الإعلاميين على صياغة ستراتيجيات للدفاع عن حقوق الأقليات، إذ جاء في المادة الأولى من هذا الإعلان (على الدول أنْ تقوم بحماية وجود الأقليات، وهويتها القومية أو الإثنية، وهويتها الثقافية والدينية واللغوية، وتعتمد الدول التدابير التشريعية والتدابير الأخرى الملائمة لتحقيق تلك الغايات).
بينما تضمنت المادة الثانية من هذا الإعلان الحقوق الأساسية للمنتمين إلى أية أقلية في مجتمعٍ ما، (يتوجب على وسائل الإعلام، ويشمل هذا التعبير استخدامات الانترنت اليوم، أنْ تسهم في صيانتها والدفاع عنها، والكشف عن أي انتهاك يحدث فيها، إذ يكون للأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية، وإلى أقليات دينية أو لغوية، الحق في التمتع بثقافتهم الخاصة، وإعلان وممارسة دينهم الخاص، واستخدام لغتهم الخاصة سراً وعلانيةً بحرية تامة).
كما أنَّ للأشخاص المنتمين الى الأقليات الحق في المشاركة في الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والحياة العامة مشاركة فعلية، بينما يكون الأشخاص من المنتمين الى الأقليات الحق في المشاركة الفاعلة على الصعيد الوطني، وكذلك على الصعيد الإقليمي حيثما كان ذلك ملائماً، وفي القرارات الخاصة بالأقلية التي ينتمون اليها أو في المناطق التي يعيشون فيها، على أنْ تكون هذه المشاركة بصورة لا تتعارض مع التشريع الوطني.
مثلما يكون للأشخاص المنتمين الى الأقليات الحق في إنشاء الرابطات الخاصة بهم، والحفاظ على استمرارها، ويجب على الدول أنْ تتخذ التدابير اللازمة التي تكفل للأشخاص المنتمين الى الأقليات أن يشاركوا مشاركة كاملة في التقدم الاقتصادي والتنمية في بلدهم، مثلما يجب على الدول أنْ تتخذ التدابير اللازمة لتأمين حصول الأشخاص المنتمين الى الأقليات على فرص كافية لتعلم لغتهم الأم أو لتلقي دروس بها.
الدرس الحساس
كان لهجمة الإبادة الجماعية التي تعرضت لها الأقليات العراقية وما تبعه من ظروف مرت بها حتى وقت قريب، ما يمكن عدّه «تقصيراً كبيراً» من المجال الرقمي العراقي بشكل عام لتقديم الإسهام الفاعل في حشد الاتجاهات للدفاع عن تلك الأقليات، على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، الأمر الذي يستدعي صياغة ستراتيجية وطنية لدعم حقوق الأقليات وعقد شراكات وتفاهمات إقليمية ودولية لتقديم الدعم لتلك الأقليات على المستوى الدولي، وفضح الانتهاكات الكبيرة والخطيرة التي تتعرض لها الأقليات، وأنْ يجري وضع أسس تلك الستراتيجية على المبادئ الدولية لحماية الأقليات في العالم.
لقد أوجد هذا ضرورة بأنْ تقوم الجهات المعنية بالتصدي لجوانب تمكين صنّاع المحتويات الرقمية بشكل عام على صحافة الأقليات لأهميتها في هذه المرحلة بالذات، فضلاً عن تدريب مجموعات من تلك الأقليات، ممن يمكن الاتصال بهم عن طريق المنظمات الدولية أو منظمات المجتمع المدني أو ممثليهم في السلطات التنفيذية والتشريعية على بث المعلومات والصور التي تتعلق بحقيقة واقعهم ونشرها عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ولا ننسى ضرورة أنْ يجري تقويم الخطاب الرسمي من قبل لجان مهنية ومختصة دورياً علانيَّة، بعد أنْ أخذ على الخطاب بشكل عام على أنَّه خطاب السلطة وليس خطاب الدولة، إذ تناغم مع أغلب معالجاته للقضايا الحساسة والتغطيات المهمة مع الخطاب السياسي للسلطة.
لقد جرى تشخيص الضعف في دور الإعلام العراقي بالتصدي المباشر للأزمات وقت وقعها، ويعود التأخير في تبني آليات مواجهة الأزمات، إلى انتظار الموقف الرسمي من تلك الأزمة في أغلب الحالات، كي تصاغ على وفقه ستراتيجية مواجهة الأزمة، ونلحظ أنَّ العديد من وسائل الإعلام لا تظهر معالجة فورية للأزمة، لا سيما مع الأزمات الكبيرة كأزمة تهديد الأقليات في العراق، الأمر الذي هيأ فرصه لصناع المحتويات التحريضيَّة بأنْ يقدموا مضامين كرست من أثر تلك الأزمات، ومنه ما ارتبط بأوضاع الأقليات، وهذا ما يتطلب صياغة ستراتيجيات فاعلة ومنسقة غير عشوائية لكشف الانتهاكات التي تعرضت لها الأقليات ومتابعة حشد الاتجاهات نحو حمايتها والدفاع عنها على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
* خبير التواصل الرقمي